للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترجمة الإمام أحمد وبقية أصحاب المذاهب الأربعة]

ذكر العلماء أن الإمام أحمد رحمه الله جمع بين الحفظ والاستنباط، فرزقه الله الحفظ، ورزقه الفهم، فهو كان -كما ذكر أبو حاتم الرازي - يحفظ ألف ألف حديث، وكذلك أيضاً كان يجيب على المسائل المتعلقة بالحديث، وقد مدحه الصرصري في قصيدته اللامية بقوله: حوى ألف ألف من أحاديث أسندت وأثبتها حفظاً بقلب محصّل أجاب على ستين ألف قضية بأخبرنا لا عن صحائف نقّل أي: أنه عرضت عليه ستون ألف مسألة، فأجاب عنها من حفظه بأخبرنا فلان وحدثنا فلان، ولم يرجع إلى الكتب، ولا إلى الصحائف، ولما كان كذلك كان هو إمام أهل السنة، فمذهبه أقرب المذاهب إلى الحق وإلى السنة، والعلماء الآخرون لا نبخسهم حقهم، بل نقول: إنهم على خير.

فـ أبو حنيفة رحمه الله كان قليل الحفظ، لم يذكر بالحفظ ولا بالأحاديث، ولكنه كان قوي الفهم وقوي التعليل، ومعرفته بكيفية الاستدلال أمر يفوق غيره، وقد اهتم تلامذته بتسجيل مسائله التي سئل عنها، فممن سجلها من تلامذته أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ثم اشتهر مذهبه بسبب تلك الكتب التي سجلت فيها مذهبه.

وأما الإمام مالك فهو بلا شك محدث وحافظ، ولكنه لم يتوسع في الحديث، إنما كان حديثه ما رواه عن أهل المدينة وما حفظه عنهم، ومع ذلك فإنه أيضاً قد استنبط مسائل، وألف كتابه (الموطأ) ، وذكر فيه كثيراً من الآراء التي نقلها عن أهل المدينة، وتتلمذ عليه بعض التلامذة، فألفوا مسائله، وعمدتهم في مذهبه النقل، وقد اشتهر مذهبه واشتهر الذين تمذهبوا به في المغرب.

وأما الشافعي رحمه الله فهو أيضاً تتلمذ على مالك، وأخذ عنه (الموطأ) ، وكذلك أيضاً أخذ عن غيره، ولكنه لم يكن من أهل الحفظ ومعرفة الصحاح من الأحاديث؛ ولذلك كان يقول لتلميذه الإمام أحمد: (إذا صح الحديث عندكم فأخبرنا حتى نعمل به) ، ولكن رزقه الله تعالى الفهم، فهو يستنبط كثيراً، كما تدل على ذلك كتبه التي كتبها والتي أملاها، فكتبه كتب فقه.

وأما الإمام أحمد فلم يكن يكتب في الفقه، وإنما كان يكتب في الأحاديث أو يكتب في العقيدة، وكره كتابة الفقه والمسائل الفقهية، وأحال تلامذته إلى أن يأخذوا من حيث أخذ؛ ولعل السبب أنه رأى أن كثيراً من الذين كتبوا اختلفوا.

فمثلاً: كتب أبي حنيفة فيها خلاف لمن بعده، وكتب مالك فيها خلاف لمن قبله ولمن بعده، ومسائل الثوري كذلك وهكذا.

ومع ذلك فإن تلامذته كتبوا مسائله التي نقلوها عنه شفاهاً، والتي حضروها؛ في أكثر من ثلاثين مجلداً، يوجد بعضٌ منها، كمسائل أبي داود، ومسائل ابنه صالح، ومسائل ابنه عبد الله، ومسائل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ وغيرها، ولكن أكثرها لم توجد، إما فقدت أو أخذت؛ وذلك لأن الإمام أبا بكر الخلال تتبع مسائل الإمام أحمد، وجمعها في جامع كبير، ورتبها، وقال: نقل حنبل كذا ونقل ابن منصور كذا، ونقل البرزاطي كذا، ونقل ابن هانئ كذا، إلى أن بلغت نحواً من عشرين مجلداً.

ثم جاء بعده ابن حامد فجمع ما فات الخلال، واجتمعت له مسائل كثيرة، ثم كاد مذهب أحمد أن ينطمس وينمحي؛ وذلك لأن أهل القرن الرابع تركوا العقيدة السلفية، واعتنقوا مذهب الأشعري، ومذهب الكرامية ومذهب الكلابية، واشتهر أيضاً مذهب الاعتزال، وأصبح كلام أحمد ومذهب أحمد غريباً، وأصبح من تمذهب بمذهبه يُتهم بأنه مشبه، وبأنه ممثل، وبأنه حشوي، وبأنه وبأنه، فقل أصحاب أحمد، وقل الذين اعتنقوا مذهبه، وصاروا لا يخرجون ولا يصرحون بمذهبهم إلا خفية.