[أهمية البيوع والتجارة واهتمام العلماء بها]
أهم شيء في المعاملات هو البيع والتجارة، فلذلك اعتنوا بهذا النوع الذي هو قسم التجارة، فـ ابن ماجة في سننه قال: كتاب التجارات، والبخاري قال: كتاب البيوع.
وكذلك مالك وأبو داود ومسلم وغيرهم قالوا: كتاب البيوع.
وبعضهم قال: كتاب البيع، وسبب تخصيصهم واعتنائهم بالبيع أن فيه مخالفات، وفيه شروط، وفيه أخطاء كثيرة، ويدخل الشرع في أموره، فأحل أشياء وحرم أشياءً، وفيه أنواع الربا، وفيه النهي عن الغرر، وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا من أهم الأمور المهمة في هذه الحياة التي يحتاج إليها.
ولا شك أن الكسب الحلال له تأثير في الغذاء، وتأثير في حسن الحياة وطيبها، وأن الكسب الحرام له -أيضاً- تأثير في العبادات والمعاملات؛ ولذلك ورد في الحديث: (لا يدخل الجنة لحم نبت على سحت) وفي رواية: (كل جسد نبت على سحت فالنار أولى به) ، والسحت: هو الحرام الذي ذم الله اليهود به، قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:٤٢] أي: للحرام، وقال تعالى: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:٦٢] ، وفسر أكلهم هذا بقوله في آية أخرى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:١٦١] فإن هذا من السحت.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أكل الحرام سبب لرد الدعاء في قوله: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) يعني: أنه لما تغذى بالحرام رد دعاؤه مع وجود الأسباب الكثيرة التي تكون سبباً في إجابة الدعاء؛ فلذلك يتأكد على المسلم أن يبتعد عن أكل الحرام، وأن يحرص على أكل الحلال، ولا شك أن له تأثيراً عجيباً في إجابة الدعاء.
ذكروا أنه قبل نحو سبعين أو ثمانين سنة كان رجل في بعض القرى القريبة مستجاب الدعوة، يأتي إليه المريض فينفث عليه، فيشفى بإذن الله، ويدعو له ويستجاب دعاؤه، ثم إنه استحضر إلى هذه البلاد، وخيف أنه يتعاطى سحراً أو نحو ذلك، فلما أحضر أخبر بأنه لا يأكل إلا حلالاً، وأن والده خلف له بستاناً من كسب يده، وأوصاه بأن لا يأكل إلا منه، وأنه توقف عليه، فهو ينفق عليه بجزء منه، ويتغذى بجزء منه، ويبيع بيعاً صحيحاً بعضه، ويشتري بما يبيعه منه حاجاته الأخرى الضرورية.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً رأى سحابة وسمع صوتاً فيها يقول: اسق حديقة فلان، ثم إن تلك السحابة تقدمت قليلاً وأمطرت في شعب، فتابع سيره حتى وصل إلى حديقة وفيها رجل يصلح الماء، فسأله فإذا هو ذلك الرجل الذي سمع اسمه من السحابة، فأخبره بأنه يقسم إنتاجها ثلاثة أقسام: قسم يتصدق به، وقسم يأكله، وقسم يرده فيها ينفق به عليها) ، فرحمه ربه بهذا العمل الحسن، وأرسل هذه السحابة لسقي حديقته.
وذكر لنا بعض مشايخنا أنه في بعض القرى تأخر المطر عن زمانه، وخيف على بعض الأشجار والثمار من الكساد والموت واليبس، ولم يقدروا على الاستسقاء إلا بأمر عام من الحكومة، ثم إن أحدهم استسقى وحده ومعه أولاده وأخوه، صلى ركعتين في صحراء قريبة من بستانه، ولما صلى ركعتين رفع يديه ودعا، وقلب رداءه أو كساءه، وقلب أهله أرديتهم، ولم يمكث إلا يوماً واحداً حتى جاءت سحابة وسقت بستانه حتى روي، ووصل الماء إلى جاره ولم يسق منها إلا خمس نخلات ثم وقف! فإجابة الدعوة من آثار الكسب الحلال.
ولا شك أنه كلما فشا الحرام وكثر تداوله كان ذلك من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة، وهكذا -أيضاً- إذا فشت المعاصي وكثرت المخالفات.
والحاصل أن العلماء اهتموا في هذه الكتب بالكسب الحلال، فذكروا شروط البيع، والخيار، والربا والتحذير منه وأنواعه، وكذلك بقية المعاملات، إلى أن ذكروا أنواع المكاسب التي يحصل منها كسب المال، ومنها الفرائض والوصايا والعتق، وبنهاية العتق يكون قد انتهى قسم المعاملات التي فيها كسب المال بأي طريق من الطرق، وبعدما انتهوا من هذا القسم عرفوا أن المسلم إذا حصل على قوته، وعرف كيف يكسب المال، وعرف وجوه المكاسب المباحة، فلابد له بعد ذلك من أمر آخر، ألا وهو النكاح، فإنه -أيضاً- من الضروريات في هذه الحياة، وإن لم تكن الضرورة إليه مثل الضرورة إلى الغذاء الذي هو القوت، فهو ضروري في كل يوم مرة أو مرات، فلما انتهوا من المعاملات بدءوا بالقسم الثالث، وهو قسم النكاح، ويسمى: العقود والمعاقدات، وأدخلوا فيه الخلع والطلاق والإيلاء والظهار واللعان والعدد والنفقات؛ لأنها من تمامه، وإن كان لها تعلق بالقسم الثاني الذي هو المعاملات.
وبعدما انتهوا من هذا القسم فالعادة أن الإنسان إذا تمت عليه نعمة المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمنكح؛ فلابد أن يكون عنده شيء من التعدي، فطبع الإنسان الأشر والبطر والاعتداء على الغير، فجعلوا بعد ذلك قسماً رابعاً هو خاتمة أقسام الفقه وهو قسم الجنايات، الذي هو الشجاج والقصاص والديات وما يتصل بها، وكذلك الحدود التي حددها الشرع عقوبة على المحرمات كحد الزنا، وحد السرقة إلخ، وألحقوا بذلك -أيضاً- القضاء؛ لأنه لا يحتاج إليه إلا عند كثرة الجنايات وكثرة الخصومات، وختموا بالإقرار الذي يكون سبباً للحكم بما أقر به.
هذه هي أقسام الفقه، وهكذا قسم كتب الفقه فقهاء الحنابلة، لكن هناك كثير من المتقدمين والمتأخرين قدموا وأخروا في هذه الأقسام، ولكل اجتهاده.