[شروط القاضي]
قال رحمه الله: (يشترط كون القاضي بالغاً عاقلاً ذكراً حراً مسلماً عدلاً سميعاً بصيراً متكلماً مجتهداً ولو في مذهب إمامه) .
يعني: أنه إذا كان صغيراً دون البلوغ فإنه قد ينخدع؛ وذلك لأنه لم يتكامل عقله، ولم تتكامل معرفته، فلابد أن يكون قد بلغ، ويجوز إذا كان قد بلغ، وذكروا أن معاذاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن وعمره نحو العشرين أو ثمانية عشر، وكذلك كثير من الذين تولوا في عهد الصحابة وغيرهم تولوا القضاء وهم صغار؛ وذلك لأن الذي ولاهم عرف فيهم الكفاءة فولاهم وقاموا بالعمل كما ينبغي.
الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، فاقد العقل، فكيف يعرف أن يتصرف؟ وكيف يعرف ما يحكم به؟ الشرط الثالث: الذكورية، لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فارس ولوا ابنة ملكهم، فقال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) المرأة كما ورد في الحديث ناقصة عقل ودين، فلا تتولى مثل هذا، وأيضاً فإن المرأة وظيفتها الاستحياء والاحتشام والتستر، والقاضي يلزمه أن يكون بارزاً للناس، يتوافد إليه الخصوم، فيجلسون إليه ويدلون بحججهم، فلا يكون القاضي امرأة؛ لأنه يلزم من ذلك أن تبرز للناس وذلك ينافي أنوثتها.
الشرط الرابع: الحرية؛ لأن المملوك مستولى عليه، بمعنى: أنه مملوك لسيده ومنافعه له، فلا يمكن أن يتولى، لكن لو أذن له سيده وكان كفؤاً عالماً عاقلاً بالغاً مسلماً عدلاً، وفرغه للقضاء، وكان أهلاً؛ فإنه يصلح، وتكون أجرته ومرتبه لسيده.
الشرط الخامس: الإسلام، فلا يجوز أن يولى القضاء كافراً ولو كان عالماً عارفاً بالأحكام؛ لأنه يحكم للمسلمين، حتى وإن كان قد يحكم لغيرهم إذا كانوا معهم، فلا يكون إلا من المسلمين.
الشرط السادس: العدالة، أن يكون عدلاً، يخرج بهذا المتظاهر بالمعصية، فإنه لا يصلح أن يتولى القضاء أياً كانت تلك المعصية، سواء كان يشرب الخمر، أو يشرب الدخان، أو يحلق لحيته، أو يسمع الغناء، أو يترك الصلاة، أو يتأخر عن صلاة الجماعة، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً إذا كان يتعامل بالربا، أو يأخذ الرشوة، فكل ذلك يقدح في عدالته، فلا يجوز أن يتولى مثل هذا قضاء المسلمين.
الشرط السابع: أن يكون سميعاً، فالأصم لا يدري ما الناس يقولون؛ وذلك لأنه لابد أن يسمع كلام هذا الخصم ثم كلام الخصم الثاني، فإذا كان أصم فكيف يسمع؟ الشرط الثامن: البصر، حتى يعرف سيما هذا وسيما هذا؛ لأنه إذا كان ضريراً لبس عليه، وقد يأتيه إنسان على أنه فلان وليس هو، والصحيح: أنه يجوز أن يكون القاضي ضريراً؛ لأن العادة أن الضرير يكون معه فطنة وفهم ومعرفة بأصوات الناس، فهو يميز بين الصادق والكاذب، وكذلك يعرف الأصوات ويميز بين صوت فلان وفلان.
الشرط التاسع: أن يكون متكلماً، فلا يصح أن يكون أخرس لا ينطق، كيف يعرف الناس حكمه إذا كان أخرس؟ ليس كل الناس يعرف إشارات الأخرس، إذا أشار بكذا وبكذا بأصابعه لم يفهمه كل أحد، إذاً: لابد أن يكون متكلماً.
الشرط العاشر والأخير: أن يكون مجتهداً ولو في مذهب إمامه.
الاجتهاد قسمان: اجتهاد مطلق، واجتهاد مقيد، فالاجتهاد المطلق هو الذي يقدر أن يعرف الحكم الذي هو الصواب بدليله، فيستطيع أن يعرف الأدلة ويستخرجها من أصولها، وذكر المتأخرون أن الاجتهاد المطلق قد انقطع بعد انتهاء عصر الأئمة الأربعة، وأن من بعدهم لابد أن يرجع إلى أقوالهم، ولكن الصحيح أنه لم ينقطع، وأن الإنسان إذا أعطاه الله قدرة وملكة فإن له أن يجتهد، ويأخذ القول الصواب سواء كان عند هذا الإمام أو عند هذا، وقد ذكروا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان مجتهداً؛ ولذلك خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل، مما يدل على أن الله أعطاه ملكة يقدر بها على معرفة الصواب ولو خالفه من خالفه.
وكذلك في عهد السيوطي في القرن التاسع وأول القرن العاشر ادعى أنه بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولما ادعى ذلك أنكر عليه أهل زمانه، وأشد من أنكر عليه السخاوي، وقالوا: كيف تدعي الاجتهاد والاجتهاد قد انقطع؟ ولكن مؤلفاته فيها شيء كثير من الاختيارات، والغالب أنه لم يأخذ كل شيء عن مذهب الشافعي؛ لأنه شافعي المذهب، فهذا هو الاجتهاد المطلق.
وأما الاجتهاد المقيد فهو: أن يجتهد في مذهب الإمام الذي يقلده، إذا كان في المذهب عدة روايات كمذهب الإمام أحمد، ففي مذهب الإمام أحمد روايتان وثلاث روايات وأربع روايات، ففي هذه الحال إذا كان مجتهداً مقيداً فمعناه أنه يعرف الراجح من هذه الروايات، إذا نزلت به نازلة يستطيع أن يخرج دليلها وأن يخرج القول فيها من كتب العلماء الذي هو تبع لهم، من كتب الحنابلة إن كان حنبلياً، أو من كتب الشافعية إن كان شافعياً، يستطيع أن يخرجها.
وأما المقلد الذي هو غير مجتهد فإذا حصلت عليه قضية لا يعرف دليلها ولا يعرف الحكم، فيحتاج أن يسأل فيقول: يا فلان! عرضت علي قضية كذا وكذا، أخبرني كيف أقضي، كلما جاءته قضية توقف فيها حتى يسأل زملاءه أو أهل بلده، فهذا لا يسمى عالماً؛ لأنه يأخذ العلم عن غيره، ويأخذ القضاء عن غيره.
هذه شروط القاضي، وهي عشرة، وفي واحد منها خلاف، وهو اشتراط البصر.