وَلَوْ عَزَلَ الْمُودَعُ نَفْسَهُ، فَانْعِزَالُهُ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذْنٌ، أَمْ عَقْدٌ؟ إِنْ قُلْنَا: إِذْنٌ، فَالْعَزْلُ لَغْوٌ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لِلضِّيفَانِ فِي أَكْلِ طَعَامِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَزَلْتُ نَفْسِي، يَلْغُو قَوْلُهُ، وَلَهُ الْأَكْلُ بِالْإِذْنِ السَّابِقِ. فَعَلَى هَذَا، تَبْقَى الْوَدِيعَةُ بِحَالِهَا. وَإِنْ قُلْنَا: عَقْدٌ، انْفَسَخَتْ وَبَقِيَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً، كَالرِّيحِ تُطَيِّرُ الثَّوْبَ إِلَى دَارِهِ، فَعَلَيْهِ الرَّدُّ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ.
[الْحُكْمُ] الثَّانِي: أَنَّهَا أَمَانَةٌ، فَلَا يَضْمَنُ إِلَّا عِنْدَ التَّقْصِيرِ، وَأَسْبَابُ التَّقْصِيرِ تِسْعَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُودِعَهَا الْمُودَعُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِلَا عُذْرٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، فَيَضْمَنُ، سَوَاءٌ أَوْدَعَ عِنْدَ عَبْدِهِ وَزَوْجَتِهِ وَابْنِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ. وَالْكَلَامُ فِي تَضْمِينِ الْمَالِكِ الْمُودَعَ الثَّانِيَ قَدْ سَبَقَ فِي بَابَيِ الرَّهْنِ وَالْغَصْبِ. وَإِنْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ الْقَاضِي، فَوَجْهَانِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا - أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَضْمَنُ. فَإِنْ جَوَّزْنَا الدَّفْعَ إِلَى الْقَاضِي، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولُ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَالدَّفْعُ عَلَيْهِ مُتَيَسِّرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْغَائِبِينَ.
وَإِذَا حَمَلَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ إِلَى الْقَاضِي، فَفِي وُجُوبِ الْقَبُولِ الْوَجْهَانِ، لَكِنَّ هَذَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِيَبْقَى مَضْمُونًا لِلْمَالِكِ. وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَوْ حَمَلَهُ إِلَى الْقَاضِي، نُظِرَ، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ قَبُولُهُ، فَالْقَاضِي أَوْلَى، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ وَأَوْلَى بِالْمَنْعِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلتَّلَفِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ، تَعَرَّضَ لَهُ.
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِيمَا إِذَا اسْتَحْفَظَ غَيْرَهُ وَأَزَالَ يَدَهُ وَنَظَرَهُ عَنِ الْوَدِيعَةِ. أَمَّا إِذَا اسْتَعَانَ بِهِ فِي حَمْلِهَا إِلَى الْحِرْزِ، فَلَا بَأْسَ، كَمَا لَوِ اسْتَعَانَ فِي سَقْيِ الْبَهِيمَةِ وَعَلْفِهَا.
قَالَ الْقَفَّالُ: وَكَذَا لَوْ كَانَتْ خِزَانَتُهُ وَخِزَانَةُ ابْنِهِ وَاحِدَةً فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ لِيَضَعَهَا فِي الْخِزَانَةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ الْمُودَعَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِحَاجَاتِهِ، فَاسْتَحْفَظَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ مُتَّصِلِيهِ، وَكَانَ يُلَاحِظُ الْمَخْزَنَ فِي عَوْدَاتِهِ، فَلَا بَأْسَ. وَإِنْ فَوَّضَ الْحِفْظَ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَلَمْ يُلَاحِظِ الْوَدِيعَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute