للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جُمَلٍ، إِحْدَاهَا فِي الْمُفْتِي، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُهُ وَبُلُوغُهُ وَعَدَالَتُهُ، فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَيْضًا التَّيَقُّظُ وَقُوَّةُ الضَّبْطِ، فَلَا يُقْبَلُ مِمَّنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ عَرَفَ الْعَامِّيُّ مَسْأَلَةً أَوْ مَسَائِلَ بِدَلِيلِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسِيًّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

وَالْعَالِمُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ غَايَةَ الِاجْتِهَادِ كَالْعَامِّيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَوْتُ الْمُجْتَهِدِ هَلْ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يُقَلَّدَ وَيُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ، بَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَمَا يُعْمَلُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ قَوْلُهُ بِمَوْتِهِ، لَبَطَلَ الْإِجْمَاعُ بِمَوْتِ الْمُجْمِعِينَ، وَلَصَارَتِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، وَلِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ، فَلَوْ مَنَعْنَا تَقْلِيدَ الْمَاضِينَ، لَتَرَكْنَا النَّاسَ حَيَارَى. وَبَنَوْا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ، وَتَبَحَّرَ فِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ؟ فَعَلَى الصَّحِيحِ يَجُوزُ. هَكَذَا صَوَّرُوا الْفَرْعَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِذَا كَانَ الْمَأْخَذُ مَا ذَكَرْنَا، فَسَوَاءٌ الْمُتَبَحِّرُ وَغَيْرُهُ، بَلِ الْعَامِّيُّ إِذَا عَرَفَ حُكْمَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ فَأَخْبَرَ بِهِ، وَأَخَذَ غَيْرُهُ بِهِ تَقْلِيدًا لِلْمَيِّتِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الصَّحِيحِ.

قُلْتُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا رُبَّمَا ظَنَّ مَا لَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ مَذْهَبَهُ، لِقُصُورِ فَهْمِهِ وَقِلَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَظَانِّ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتِلَافِ نُصُوصِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ، وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا، وَالرَّاجِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَاسِيَّمَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّذِي لَا يَكَادُ يَعْرِفُ مَا يُفْتَى بِهِ مِنْهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، لِكَثْرَةِ انْتِشَارِهِ، وَاخْتِلَافِ نَاقِلِيهِ فِي النَّقْلِ وَالتَّرْجِيحِ.

فَإِنْ فُرِضَ هَذَا فِي مَسَائِلَ صَارَتْ كَالْمَعْلُومَةِ عِلْمًا قَطْعِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، كَوُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>