الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
هُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» قَوْلًا عَنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلدَّعْوَى اتِّصَالٌ بِحَاضِرٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابِ، وَفِي الْبَابِ أَطْرَافٌ:
الْأَوَّلُ: فِي الدَّعْوَى، وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَلَى الْحَاضِرِ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّعَى وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَقَوْلِهِ: إِنِّي مُطَالِبٌ بِالْمَالِ. وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: لِي عَلَيْكَ كَذَا وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَأَنْ يَدَّعِيَ جُحُودَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُقِرٌّ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَلَغَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجُحُودِهِ وَلَا إِقْرَارِهِ، فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ، فَجُعِلَتِ الْغَيْبَةُ كَالسُّكُوتِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا إِذَا أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، لِيَكْتُبَ الْقَاضِي بِهِ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْغَائِبِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَيْنِهِ لِيُوَفِّيَهُ الْقَاضِي تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَيُوَفِّيهِ، سَوَاءً قَالَ: هُوَ مُقِرٌّ، أَوْ جَاحِدٌ، وَهَلْ عَلَى الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يَنْصِبَ مُسَخَّرًا يُنْكِرُ عَلَى الْغَائِبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، وَأَصَحُّهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ قَدْ يَكُونُ مُقِرًّا، فَيَكُونُ إِنْكَارُ الْمُسَخَّرِ كَذِبًا.
وَمُقْتَضَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ لَا يَجُوزَ نَصْبُ الْمُسَخَّرِ، لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعِبَادِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ نَصَّبَ وَإِلَّا فَلَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute