«وكان رد حليمة إياه إلى أمه، وهو ابن خمس سنين وشهر فيما ذكر أبو عمرو، ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين إحداهما بعد تزوجه خديجة رضى الله تعالى عنها، جاءت إليه تشكو السنة، وإن قومها قد استنوا، فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرين، والمرة الثانية يوم حنين» .
وإن هذين بلا شك خبران متناقضان: أحدهما يفيد أن أمه تسلمته عند بلوغه سنتين وشهرين أو ثلاثا، والثانى يقرر أنها تسلمته بعد خمس سنين وأشهر.
ولكن التوفيق بينهما ممكن بأن أخذها الأول لتضمه إليها، ويكون فى كنفها، ولا يمنع ذلك من أن تجئ حليمة إليه تأخذه عندها الفينة بعد الفينة، يستروح بنسيم الصحراء. وتتيمن به ظئره المخلصة العطوف، أما حد التسليم بخمس سنين، فهو عندما أخذته نهائيا أمه، ولم يذهب بعد إلى بنى سعد.
ولذلك قرروا أنها لم تره بعد ذلك إلا بعد أن اكتملت رجولته بتزوجه، وبعد أن أبلغ رسالته، وتذاكرت الركبان بنصرته فى يوم حنين، فقد دامت من بعد إقامته عند أمه، ورحلت به إلى يثرب لتريه قبر أبيه، ولتزوره هى وفاء لرجلها الطاهر الأمين.
لقد سلمته حليمة إلى أهله، وكان يتردد عليها برغبتها، وأجازه أهلها، وقد ذكر ابن إسحاق خبرين قد نوهنا إلى أحدهما، ولم نذكر الاخر، وقد كان السبب فى ألا يقيم عندها إقامة ممتدة، ولكن تأخذه الوقت بعد الاخر.
أولهما أن ابن إسحاق قدر أنه زعم الناس فيما يتحدثون أن حليمة ظئره لما قدمت مكة به ضلت وهى مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأمّت جده، فقالت له إنى قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلنى الناس فو الله ما أدرى أين هو؟ فقام عبد المطلب يدعو الله أن يرده، فوجده ورقة ابن نوفل بن أسد، ورجل اخر من قريش فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه امنة.
وقد ذكر هذا الخبر بن إسحاق، وصدره بكلمة زعموا مما يدل على شكه، ولكن لا موضع للشك فيه، فالخبر فى ذاته مقبول، وهو يدل على عظيم حدب جده عليه، وحرص حليمة، ومحبة قريش له.
ولكن هل هذا كان فى تسليمها الأول، أو فى تسليمه فى المرات التى كان يتردد عندها، تيمنا لجواره وقربه منها، وقبول أمه لذلك ليستروح هواء البادية، وتتقى أسقامه بها.