للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[رحمة النبى القائد صلى الله تعالى عليه وسلم]

٤٣١- إن القائد الذى يسير وراءه الجيش، ويقدم روحه بين يديه، ويقدم معه على مواقع الردى غير هياب ولا وجل، هو القائد الرحيم الذى يحمى الجند من ورائه بأن يحنو عليهم كما يحنو الأب على أبنائه، فإذا قدمهم للاستشهاد فلمقصد أسمى، يقدم نفسه فيه أمامهم.

وليس القائد المظفر هو الذى يقدم جيشه إلى الميدان، كما يقدم أدوات الحرب، ومعدات القتال، من غير قلب يرحم، وينسى أن الجيوش قلوب تقدم، وأرواح تتقدم فداء للمعنى الإنسانى العالى الذى تقاتل من أجله، وتخوض له مشتجر السيوف، وتلقى بالحتوف نصرا له، وتأييدا لكلمة الحق، إن هذا النوع من القواد الجامدين الذين يحسبون الحرب تخطيطا وليست رحمة، أو تلابسها رحمة لا ينتصر، وإن انتصر مرة، لا يعاوده النصر مرة أخرى، لأنه لا يجد جندا ينصرونه، ولقد رأينا ممن يحسبون أنفسهم قواد الحرب من يرى صرعى جيشه في الصحراء، ولحومهم تنهشها ذئابها، ويقول غير حزين:

هكذا الحرب. ولذلك توالت هزائمه.

ولقد كان بونابرت قائدا مظفرا حتى عاد إلى فرنسا، وترك جنده في روسيا يأكلهم الثلج، وقد أذاقهم لباس الجوع، فكان ذلك مفتاح هزيمته، وما انتصر من بعد ذلك انتصارا حاسما.

وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كان المثل السامى لرحمة القائد بجنده، كأنهم قطع من نفسه، ولقد زكى الله سبحانه وتعالى هذه الرحمة المحمدية النبوية، فقال الله سبحانه وتعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران- ١٥٩) .

وقد بدت رحمة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجنده في أحد وعقب الجروح التى أصابت الجيش الإسلامى، فما وجه لوما لأحد، وما جال بخاطره أن يحاكم المقاتلين لأخطاء وقعت، بل كل همه في الميدان أن يسترد الموقف لأصحابه، وأن يقفوا، ولا يخروا صرعى أمام أعدائهم، بل ارتقى بهم إلى الهضبة وأعطى الراية من يحملها بحقها، وناضل، وقاوم، حتى أيأس المشركين من أن يستأصلوا المؤمنين، بل خافوا منهم، وأنهوا القتال وإن لم يكونوا مدحورين، خشية أن يندحروا، إذ رأوا جند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتد بأسهم في القتال مع هذه الجراح التى جرحوها.

وعفا عنهم، ليستبقى نخوتهم وبأسهم لما يأتى، وإن لم يكن ما وقع لا يسر، بل كان يضر، ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بالعفو، بل استغفر لهم بأمر ربه.

<<  <  ج: ص:  >  >>