هذا وإن محمدا عليه الصلاة والسلام كانت رؤياه صادقة كل الصدق، فقد قال عليه الصلاة والسلام إن أول الوحى كان بالرؤيا الصادقة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح، أى أنها تكون واضحة، فلعله فى وسط تعرفه لصلاة إبراهيم جاءته رؤيا بها مثل فلق الصبح.
ومهما يكن من الروايات، فإن الثابت المؤكد، أنه كان يتحنف فى غار حراء الليالى ذوات العدد، وكان يتزود بالزاد لخلوته هذه، وكانت الإلهامات تفيض عليه فى المدة التى كانت قبل البعثة، وأنه كان يرى الرؤيا مثل فلق الصبح، وأنه منذ بلغ سن إدراك المعانى الدينية كان دائم التفكير والتدبر لمعرفة الله تعالى ومحاولة إرضائه، ونرجح بهذا أنه كان يتعبد على ديانة إبراهيم، وأنه وصل إلى بعض أجزائها بالإلهام وبالرؤيا الصادقة وبالتعرف، وإنا نستبعد كل الاستبعاد أنه أخذ من التوراة والإنجيل، فما كان له علم بهما.
[عبادته بعد البعثة:]
١٤٧- هذه صورة صادقة أو مقربة من عبادته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، وهى تدل على أنه كان قواما لله تعالى طالبا مرضاته، وإذا كان لم يعرف شريعة إبراهيم على وجه الكمال، فقد عرف ما يكفيه لأن يكون عابدا يطلب رضا الله تعالي، وقد صفت نفسه فأدركت، وخلص قلبه فألهم. وعلم أن ملة إبراهيم كانت الفطرة المستقيمة والحنيفية السمحة، فاختارها، وسلك سبيلها.
فالعبادة المتجهة إلى الله تعالى كانت فى قلبه ونفسه، وكيانه وخلقه، قبل أن ينزل عليه كتاب هاد، قد أذهب حيرته، ووجد الكتاب ينير له السبيل، ويفصل الأحكام، ولا شك أنها تكون أهدى بعد هذا التنزيل، وأن العبادة فى الجاهلية قبل البعثة كانت فى قلبه بذرة صالحة نمت لأنها كانت فى أرض طاهرة خصبة، ولم يكن لها سقى ولا رعي، ومع ذلك اتت أكلها، فبعد البعثة المحمدية جاءها السقى والرعى فأربت ونمت، وازدهرت فى قلب مخلص مدرك، وصار قريبا من الله تعالى بقلبه الطيب المخلص، وبمعرفة شرعه تعالي، وباتصال الوحى به دوما من غير انقطاع، فكان بذلك أعبد خلق الله تعالي، وكلما ازداد علما بالله وشرعه، ازداد عبادة، وخوفا من الله، وإرضاء له، ولقد روى أبوذر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال:«إنى أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء،. وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» . رواه الترمذى.
ولقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك عنها عن عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالت الصديقة بنت الصديق: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم، حتى نقول: