للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونرى من هذا أن خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام، فهم من هذه الرؤيا تكليفه ذبح ابنه، فقبل التكليف صابرا، محتملا، وهو ابنه البكر، واستجابة دعوته عليه السلام، وكان ذلك البلاء المبين حقا، فقد استجاب للطلب إبراهيم، وقبل الاستجابة إسماعيل صابرا، فكانا من المحسنين، ونعم الصابرون.

[والمرتبة الثانية،]

عبر عنها ابن القيم بأنها ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه، وهذا التعبير يستفاد منه أن الملك هو الوسط بين الله ورسوله، فهو ينفث فى روع الرسول، وبأمر الله تعالى، فكان بذلك وحيا، وكان بطريق الملك، ولقد مثل له ابن القيم بقوله عليه السلام: «إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب» والفرق بين الوحى بهذا المعنى والوحى بلقاء جبريل وروح القدس، أن لقاء جبريل عيانا فى حال المخاطبة. إنما فى هذه الحال، فاللقاء فى النفس وفى القلب والعقل، وربما نعد حينئذ أن يكون هذا من إرسال رسول، ولو كان بإلهام الله تعالى المجرد، وهو ما نميل إليه إذا استيقن الرسول أن ذلك إلهام من الله تعالى، فإنه كلام الله تعالى بالوحى المجرد من غير توسط رسول.

[المرتبة الثالثة:]

مخاطبة الملك، حتى كان يتمثل رجلا، فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه متمثلا فى رجل يظنه النبى صلى الله عليه وسلم من الإنس لا من الملائكة. فقد كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى، كما روى ذلك النسائى بسند صحيح من حديث ابن عمر، ولقد قيل أن مجيء جبريل على صورة دحية الكلبى كان بعد بدر، ويقول ابن القيم وكان دحية رجلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن «١» لتراه، وإن مجيء جبريل فى صورة رجل، ليس معناه أن جبريل الأمين نزع من روحانيته، أو ذهبت عنه الروحانية، إنما هو لا يزال روحا، والذى ظهر به هو ظهور للروح فى صورة جسدية، ومعانى الملك لا تزال ثابتة قائمة، ولا يوجد ما يمنع عقلا أن تظهر الروح فى صورة إنسان له جسد.

ودحية لا شأن له فى هذا التغير الصورى، بل هو حى فى جسده يأكل ويشرب، ويمارس الحياة الإنسانية كاملة.

وكون روح القدس جبريل يظهر فى جسد لا يقتضى أن يتحول الجسد إلى ملك، ولا أن يتحول الملك إليه، وهى روح ليست حيوانية، ولا ثمرة للحيوية الإنسانية، حتى إذا تركت الجسد لا تفارقه الحياة، لأنها ليست أمرا عضويا، ولكنها روح ملك تفيض فى جسم يخلقه، أو تظهر فى جسم يخلقه الله تعالى، وهو الخلاق العليم، فإذا غاب الملك غاب معه الجسد الإنسانى.


(١) الظعن بضم الظاء والعين جمع ظعينة، وهى المرأة الجميلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>