للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقول فى الإجابة عن ذلك: «إننا استعنا بالأخبار التى وردت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الرسالة لأنها وضحت صفاته قبل الرسالة، ولأنها ذكرها من شاهد وعاين من بعد الرسالة، وهذه الصفات التى عاينها الذين آمنوا بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، صفات ذاتية، لم تجيء بالرسالة، ولكنها كانت قائمة بذاته الطاهرة من قبلها، فما وصفه الجسدى حادثا بعد الرسالة، ولكنه كان من قبلها، واستمر بعدها، وما كان ما اتصف به من الأمانة والصدق، والعفة، والحلم، والعفو، بأخلاق عرضت له، ولكنها كانت ككل الملكات الذاتية لا تكون عارضة، ولكن تكون مستكنة تامة، وإن أخبار النبى عليه الصلاة والسلام ما كانت لتقوم عليها البينات النيرة الواضحة قبل الرسالة، وهو لم يكن له أصحاب يتبعون سيرته، ويدونون خليقته، ويهتمون بما كان عليه، وما كان من الممكن أن يتكشف للناس أمر هذه السجايا إلا بعد أن يختلط بهم، ويتقدم للدعوة لربه، ويلتقى بالقبائل، ويقرب المرافقين ويدنيهم، ويوجههم ويهداهم، ويصبر للمخالفين، ولا يلاحيهم، ويجادلهم بالتى هى أحسن، ويوطيء أكنافه لهم، وهو ليس فظا ولا غليظ القلب، فالأخبار التى استشهدنا بها لإثبات صفاته، وما كان عليه من خلق ذاتي، ما كانت الرسالة منشئة لها، ولكنها كاشفة الغطاء عنها، معرفة لها، وهى ذاتية قد هيأته لأن يكون المبعوث رحمة للعالمين، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «١» .

[البشارات بالنبى المنتظر]

١٧٣- كان العالم يموج بفتن مادية، فالحرب كانت قائمة على قدم وساق بين الفرس والرومان، ومن قبل عصر نبوة عيسى انسابت الجيوش اليونانية بقيادة الإسكندر المقدونى وراء فارس، حتى وصلت إلى الصين، وقد كان العصر من بعد عيسى عصر الاضطهاد الديني، اضطهد النصارى ابتداء، ومكث اضطهادهم زهاء ثلاثة قرون لقوا فيها من الرومان واليهود أشد ما يلاقى ذو اعتقاد فى اعتقاده، وذو إيمان فى إيمانه، حتى أن نيرون أحد أباطرة الرومان كان يطليهم بالقار، ويشعل النار فيهم، ويسير فى موكبه تحيط به تلك المشاعل الإنسانية لهؤلاء المؤمنين الصادقين فى إيمانهم الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، وقبلوا العذاب الهون، وتوقعوه، ورفضوا أن يغيروا فى سبيل دنيا يصيبونها، أو دفع عذاب ليتقوه.

وكانت مصر من أول البلاد التى دخلت فى النصرانية الأولي، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولذلك كانوا أشد البلاد تعرضا لأذى الرومان الذين كان سلطانهم مفروضا عليها وعلى الشام، وجاء إليهم العذاب الشديد فى عهد دقلديانوس، وذبحت فيهم مذابح سجلها التاريخ، وأرخ بها التاريخ القبطى مسجلا تلك المذابح، يذكر الرومان بما يعود عليهم بالخزى والعار، ويذكر المصريين الأولين بالافتخار، ويذكر المتأخرين من الأقباط بالاعتبار.


(١) سورة ال عمران: ٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>