وقد بلغ الشيخوخة فنضج فكره، وقد جاءت إليه ابنة عمه خديجة بنت خويلد. وكان بصره قد كف، قالت خديجة فى هذا اللقاء: يابن عم اسمع من ابن أخيك. فأخبر النبى عليه الصلاة والسلام ورقة بما رأى وعاين. قال ورقة: هذا الناموس الذى كان ينزل على موسى، يا ليتنى كنت فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم متعجبا، كيف ينطق بالحق، ويخرجوه؟ قال:«أو مخرجى هم» . وتلك هى براءة الفطرة، قبل أن يمرسه الله تعالى بشدائد الدعوة، وقبل أن يلقى الباطل فى طغواته بالحق فى نوره.
قال ورقة الذى علم أخبار النبيين، وما لقوا من بأساء وضراء وشدائد: «نعم (أى هم مخرجوك) لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك هذا أنصرك نصرا مؤزرا» .
إن هذه كلمة ورقة، وهى ثمرة الدراسة المبينة لتجارب الأنبياء.
وهنا قد يسأل سائل: لماذا ذكر موسى عليه السلام، وهو التوراة، ولم يذكر الإنجيل الذى نزل على عيسى عليه السلام؟ والجواب عن ذلك أن التوراة كانت فيها شريعة قائمة عمل بها النبيون من بعد موسى عليه السلام،. وجاء عيسى لإحيائها بعد أن أهمل اليهود تعاليمها، ولم يطبقوها لغلظ رقابهم، فجاء عيسى لإعلان حقائقها، وروى عنه أنه قال:«جئت لإحياء الناموس» ، ولقد جاء النص فى كتب النصارى أنه يؤخذ بشريعة التوراة، ما لم يجيء نص فى الإنجيل يخالفها.
ولم يكتب الله تعالى للشيخ ورقة بن نوفل أن يحضر المعركة التى قامت بين الحق والباطل، فلم يلبث أن توفى ولم يحضر الدعوة المحمدية، إذ أنه قد مكث مدة، حتى أمر محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالة ربه، وأن يصدع بما يؤمر.
[فترة غياب روح القدس:]
١٩٩- علم النبى عليه الصلاة والسلام أنه يحمل تكليفا كبيرا، وأنها منزلة كبيرة يعلو فيها بإنسانيته، فأصبح المرهوب محبوبا مرغوبا، بعد أن خشى من لقاء روح القدس، جبريل عليه السلام، صار يتمنى أن يلقاه. ليلقى أمر الله تعالى، ويستجيب له، ويحمل الأمانة التى اختاره الله تعالى لها.
لقد كان يتوقع أنه سيراه بعد أن يعود إلى الغار، لكنه لم يجيء إليه وفتر عنه، فظن فى نفسه الظنون، ولعله ظن أن ما اعتراه من خوف فى اللقاء الأول نحى تكليفه القيام برسالة، ولقد كان حريصا على الاستجابة للدعوة إلى الحق، والحريص على القيام بأمر يستعجله، ويستبطيء غيابه، ولعله خشى أن يكون ما أخبره به العالم الخبير ورقة بن نوفل لم يصادف الحق، ولعله تكون الرؤيا التى راها، والمشاهدة التى عاينها