ذكرنا هذه القصة بطولها. ليتبين أن قريشا أحنقهم، أن استجيب طلب محمد عليه الصلاة والسلام أن يجد المأوى لدعوته فى يثرب وظهر غضبهم فى تتبع القوم وفى الأذى الذى أنزلوه بسعد بن عبادة، وهو الذى أدركوه، وغيره قد اجتازوا الطريق، ورحلوا، قبل أن يصلوا، ولو أدركوهم فوق السبعين لا يعلم إلا الله تعالى كيف تكون العاقبة. ولعلها تكون أول موقعة بين المشركين والمسلمين، بل لعل هذه المطاردة ذاتها أول معركة بين قوة الإسلام ولو قليلة وقوة الشرك، وإن كانت كثيرة، ولعل المشركين أدركوا بأن عهد الاستضعاف أو شك على نهايته، والله ولى الصابرين.
[ابتداء الهجرة]
٣١٧- وجد المسلمون أنه صار لهم مأوى ينقلون إليه، وشعر المشركون أن الإسلام خرج نقيا طاهرا ظاهرا قويا من أرضهم ليكيل لهم الضربة بمثلها، والإيذاء بدفعه، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد صار له قوة تناوئهم إن أرادوا به كيدا، وأنه قد تلتف عليه قبائل العرب، قبيلة قبيلة، وما شعروا بالندم على أن حاربوه، ولم يمكنوه من الدعوة، بل لاقوه هو وصحبه بالأذى والاستهزاء، ولكن الندم لم يعرهم، لأنهم سادرون فى غيهم. وقد استولت عليهم العداوة، ومن استولى عليه العداء، وسيطرت البغضاء، لا يرعوى، ولا يتجه إلى الرجوع عما هو فيه، وكلما ازداد قوة ازداد حدة. ولا ندم من الحدة، لأن الندم شعور بسلطان الحق. وليس للحق سلطان فى قلوب المشركين الذين استمكن الشرك والتعصب فى قلوبهم، فلا تزيدهم مظاهر القوة فى الحق إلا عتوا واستكبارا، ولا ننسى أن المنافسة بين العشائر، والتنازع بين الشرف هى الأصل فى الإعراض، وتثبيت الكفر فى القلوب، وكلما ازدادت قوة الدعوة، حسبوا أن ذلك زيادة لشرف بنى هاشم أهل الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه.
ولذلك اشتد كلبهم على المسلمين الذين بين ظهرانيهم، لما رأوهم يخرجون إلى القوة يتجمعون بها، ولم يخرجوا فارين بدينهم، كما خرجوا فى هجرة الحبشة مرتين، بل هم فى هذه المرة يخرجون ليجمعوا قوة يستعصمون بها بتوفيق الله تعالى، وهدايته.
وذلك هو الفرق الواضح بين هجرتى الحبشة، وهجرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك لم ترعهم هجرتا الحبشة، بل أثارت إشفاق بعض قريش كعمر بن الخطاب، كما ذكرنا، أما الهجرة إلى يثرب، فلقد أزعجتهم، وأثارت غضبهم، وإن كان ثمة إشفاق، فعلى أنفسهم لا على غيرهم.
هذا شعور المشركين من قريش عندما بايع أهل يثرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أما شعور المؤمنين الصابرين فقد ابتدأوا يحسون بنصر الله تعالى لهم، وأنهم صار لهم قوة، تدفع عنهم وبهم ذل