ولكن ما الذى كان يتجر فيه؟ ما زال هذا السؤال يلح علينا ما دمنا لم نذكر مادة تجارته فيما ذكرنا، ولكن يصح أن نسد الفراغ فى هذا الجزء من تاريخه، عليه الصلاة والسلام، بأنه يتجر فى البضائع التى تتبادل داخل مكة المكرمة، ولا تذهب إلى خارجها، لأنه لم يعرف أنه خرج من مكة المكرمة مع قافلة التجار إلى اليمن أو الشام، فكانت تجارته عليه الصلاة والسلام، مع شريكه مقصورة على ذلك النطاق فى داخل المدينة، وما يفد إليها، وقد كانت فيها أسواق تمتليء بالتجار فى موسم الحج، وكون الحجيج يفدون من أقصى أرض العرب إلى أدناها لابد أن يجعل فيها بضائع ترد إليها مع الحجيج، ويأخذ الحجيج من بضائع فى مكة المكرمة يعودون بها إلى ديارهم.
وإذا كانت رحلة الشتاء والصيف لقريش فيها التجارة الخارجية التى ينقلون فيها بضائع الروم إلى الفرس وبضائع الفرس إلى الروم، فمكة المكرمة كان فيها الاتجار فى داخل البلاد العربية فى موسم الحج، ومنها بضائع الروم والفرس فى البلاد العربية، فكانت فيها الأسواق رائجة.
[مشاركته فى الأمور الجامعة]
١٠٦- لم ينقطع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، عن قومه فى أعمالهم الجماعية، إذا كانت تتعلق بالتعاون على خير يقومون به، فإذا كانوا على أمر جامع ذهب إليه، وشارك فيه ما وسعه المشاركة، من غير أن يرضى بباطل، أو لا يبشر بحق، بل كان دائما مع الحق يستبشر به، وضد الباطل، ينغض رأسه به، من غير صخب ولا شحناء، فما كانت الشحناء من شأنه، ولا المباغضة من خلقه، بل هو فى كل أحواله الودود الحليم، والنفس الطيبة، وكان يحضر دار الندوة إذا انعقدت، ويستمع إلى كبراء العرب، فما يرضيه من قول الحق يستشرف إليه، ويستبشر به، وما لا يكون حقا، يبدو نفوره منه، ولا يرتضيه.
جاء فى كتاب زهر الاداب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى صباه حضر ندوة قريش، وقد حضر من اليمن كبارهم فنظر إليه قيل من أقيالهم، ورأى فيه نظرات قوية أحيانا، وهادئة مستبشرة أحيانا أخرى، فقال:
مالى أرى هذا الغلام تارة ينظر إليكم بعينى لبؤة، وأخرى بعينى عذراء خفرة، والله لو أن نظرته الأولى كانت سهاما لانتظمت أفئدتكم، فؤادا فؤادا، ولو أن نظرته الثانية كانت نسيما لأنشرت أموآتاكم.
لم يكن منقطعا عن الحياة الجماعية، إذ أنه رسول الرحمة والمحبة وتأليف الجماعات، فلابد أن يكون بينهم فى الكريهة والرخاء، لا يفترق عنهم إلا إذا كان الإثم، فإنه يجانبه من غير مباغضة لأهله، بل