للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما كان ليسمح لأحد أن يؤذيه إلا لطيب نفسه، فيكون الإيذاء جاذبا للأنظار مسترعيا للذين يعرفون ما ينبغى للأحرار، فيدعوهم ذلك إلى التفكير فى الذى يدعو إليه من غير تمييز لهم، ويكفى ذلك للدخول فى الإسلام مناصرا غير محارب ولا مجاهل.

من أجل ذلك، ولأن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وحيث يثبتها وينشرها ويذيعها اختار لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يتأتى للأمور بيسر وبرفق من غير عنف أو رهبة، ولو كان بقوة النفس لا بقوة السيف.

[الهجرة إلى الحبشة]

٢٥٩- عدد الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وتابعوه فى الصبر على الأذى يزيد ويكثر، ولم يقتصر على الضعفاء. بل دخل فيهم أشراف من مكة المكرمة، وبتزايد العدد يتزايد الاضطهاد ويكثر ويتنوع. فمن إيذاء بالأيدى والسياط، والإلقاء فى الرمضاء فى الحرور، ومن أفعال لا تصدر إلا عن السفهاء الأنذال. كما فعل أبو جهل مع النبى عليه الصلاة والسلام وغيره، ومن استهزاء وسخرية، ومن منع من العبادة. ويجدون فى ذوى الكرامات مرتعا خصيبا للنيل من كراماتهم.

أصبح الإيذاء عاما ولا مناص من التخلص منه، وهم بمكة المكرمة وما حولها فلابد من الهجرة، وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً «١» وإلى أى أرض يهاجرون.

لابد من أرض تتوافر فيها الحرية، وتكون بعيدة عن سطوة مكة ومن فيها قريش. ولهم مكانة فى القبائل، وتكون تحت سلطان حاكم فيه طيبة لا يؤذى ولا يمكن أحدا من الإيذاء. حتى يكونوا فى بعد عن الاضطهاد واحتماله.

وذلك فى أرض الحبشة. فهى بعيدة عن سطوة قريش. وهى لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من قبائل. وفيها حاكم طيب عرف بذلك واشتهر، فأشار النبى عليه الصلاة والسلام بالهجرة إليه. وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه وقد رأى البلاء ينزل بهم. وهو لا يقدر على منعه عنهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» .

كانت أول زمرة من الهجرة إلى الحبشة فى السنة الخامسة من مبعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

ولا شك أن الهجرة لها ثمرة أخرى غير دفع الأذى، والاعتصام منه ومنع الفتنة التى أرهقوا بها عسرا، وهذه الثمرة هى التعريف بالإسلام، وبالمباديء الإسلامية، فقد وقف جعفر بن أبى طالب


(١) سورة النساء: ١٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>