ولكن قريشا تعاديه والحرم المكى الشريف تحت سلطانها، فلا بد أن يفرغ من عداوتها، تمكينا للدعوة، وتعبيدا للسبيل إلى الحج، الذى هو نسك من نسك الإسلام، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد التفرغ لليهود الذين تجمعوا في خيبر، وهم وحدهم الذين يريدون الانقضاض على المدينة، زاعمين أنها ديارهم أخرجهم منها، وقتل من قتل منهم.
فكان لابد أن يعرف أمر قريش، وأن يعرف أهم يسهلون له أداء فريضة الحج، بقية ديانة إبراهيم فى أرض العرب، أم أنهم يقفون في سبيله كما وقفوا دائما. لابد أن يقرن النية بالعمل، فذهب ليحج، وكانت موقعة الحديبية التى سماها الله تعالى فتحا مبينا، لأنها أزالت الحواجز النفسية التى كانت تحاجز بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، والتقى بهم الأمين الحبيب الذى عرفوه في صباه، وشبابه، وزالت المحاجزات بسبب الخلاف والنفور، والحرب.
[غزوة الحديبية:]
٥٠٤- فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة النبوية، كما تطابقت كل الروايات، وهى من أشهر الحج، اعتزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من أصحابه الحج، وكان معه سبعمائة، ولكن قال جابر بن عبد الله: كان معه أربع عشرة مائة أى نحو ١٤٠٠، وهذا معقول، فقد كان جيشه صلى الله تعالى عليه وسلم مرهبا لقريش، وما كان يرهبها ما دون الألف، ولقد ذكر ذلك العدد، وهو ١٤٠٠ (أربعمائة وألف) البخارى وغيره، ورقم السبعمائة لابن إسحاق.
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم لا يريدون حربا، بل يريدون حجا جامعا، ولكنه ما أن وصل إلى عسفان حتى لقيه بشر بن سفيان الكعبى، ويظهر أن قريشا قد علمت أو ظنت خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهى الحذرة المتحفزة.
قال بشر بن سفيان: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرحيم بقومه راجيا الإسلام فيهم، وإن حاربوه: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب، فإن أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش، فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذى بعثنى الله به، حتى يظهره، أو تنفرد هذه السالفة.