للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: من أين علمك، قال إنكم حين أشرفتم لم يبق لشجر، ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، ثم رجع فصنع لهم طعاما» «١» .

١٠٤- عاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الرحلة التى يبدو من ثناياها أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) أراد فيها أن يعرف الشام وأحواله، والتجارة، والصفق فى الأسواق، وبدت فيه تلك البشائر النبوية، وعلم الأشياخ من قريش مكانة ذلك الصبى، وهو المحبوب بينهم كثيرا كأبيه، حتى أنه لما نبههم بخيرى إلى أنه لم يكن بينهم ويجب أن يكون بينهم، تنبهوا، وقال قائلهم، إنه للؤم إذ لم يكن بيننا، وناداه واحتضنه، شعورا بالمحبة الشديدة المخلصة، وإشعارا بالندم على ما كان عندما رأوا هذه الحال.

وأخذ عمه أبو طالب بنصيحة الراهب، وقفل به راجعا مسرعا، خشية عليه مما خشى الراهب، من أن يغتاله اليهود، أو الرومان، فعاد به إلى قومه.

وإنه فى هذه الرحلة التجارية التى رغب فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم واستجاب له أبو طالب شفقة ورقة وملاطفة، وهو يحسب أنها من رغبات الصبيان، وأجابه محبة وتدليلا، يحسب أنه لا جد فيها، ولا غاية، ولكن الصبى يظهر أنه كان يريد منها الجد، فيريد منها الاستعداد لعمل يعتمد فيه على نفسه، ولا يكون كلا على عمه المحدود فى الرزق، فهو يريد الكسب من عمل يده.

وإذا كان اليتم لم يقهر محمدا صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه، إذ أعزه الله تعالى، وأكرمه، ولم يمكن أحدا من قهره فكان اليتيم العزيز المحبوب، فإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم استفاد من اليتم الجد فى طلب الرزق غير معتمد على أحد غير ربه، فنال من اليتم محاسنه، ولم ينل اليتم منه بمساوئه.

ذلك أن الثابت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ الاعتماد على نفسه من بعد، وقد رأينا أنه ابتدأ يرعى الغنم صبيا، فلما تجاوز الصبا إلى المراهقة اتجه إلى صناعة أشراف مكة، وهى التجارة، ولم يذكر التاريخ فى أى سن ابتدأ التجارة، ولكن الأمارات تصور لنا أنه ابتدأ فى سن مبكرة.

أولا- لأنه رغب رغبة شديدة فى أن يسافر إلى قافلة التجارة، ولا نفرض أنه طلب ذلك لمجرد متعة السفر، فإنه كان صبيا جادا، ولم يكن ممن يميلون إلى المتاع.

وثانيا: لأنه كان لا يمكنه أن يعتمد على ثراء أحد. إذ كان كافله الذى كفله، وهو أبو طالب فقيرا.


(١) الروض الأنف ج ١ ص ٢١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>