وقد توادع الفريقان على أن يستأنف القتال بينهما من العام القادم فى عكاظ.
فلما توافقوا فى الميعاد ركب عتبة بن ربيعة جمله، ونادى:
«يا معشر مضر علام تقاتلون؟ فقالت هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح، قالوا: كيف؟ قال فدى قتلاكم (أى ندفع الدية عليها) ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا، قالوا: ومن لنا بذلك قال: أنا. قالوا:
ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة. فدفع الصلح على ذلك. وبعثوا إليهم أربعين رجلا، فيهم حكيم بن حزام، فلما رأوا الرهائن من الرجال بين أيديهم عفوا عن ديانهم، وانقضت حرب الفجار بصلح كريم» .
١٠٨- وهنا نسأل: ماذا كانت سن النبى صلّى الله عليه وسلّم فى هذه الحرب؟ وماذا كان عمله فيها؟ وما الذى حمله على الذهاب اليها؟
أما من ناحية سنه، فنقول: إن ابن هشام يقول فى سيرته: «إن سنه كانت بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة» ويقول ابن إسحاق: إنه كان فى العشرين من عمره الكريم.
ولا نجد لإحدى الروايتين ترجيحا على الاخرى، إلا أن يكون سند ابن إسحاق أقوى، فلقد قال الشافعى رضى الله عنه «الناس فى السيرة عيال على ابن إسحاق» ولعله يكون مما يقوى خبر ابن هشام من السيرة أن أعمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذوه فى هذا اليوم، فهذا يدل على أنه لا يزال حدثا، ومن بلغ العشرين يكون رجلا.
ومهما يكن فإنا نرى أنه كان ابن عشرين، كما يدل على ذلك ما يجىء فى حلف الفضول.
ومع أنه بلغ العشرين لم يقدم على القتال، لأنها ليست حربا عادلة، وفطرة محمد السليمة ما كانت لتسمح له بأن يقاتل فى حرب فاجرة انتهكت فيها الحرمات من الجانبين، فكلاهما اثم، فكيف يشترك الطاهر المطهر الذى رباه الله تعالى على عينه في حرب خالطها الإثم. فى سببها وفى زمانها، وفى وقائعها؟
لم يكن للنبى فى هذه الحرب إلا أنه شهدها بعد أن حمى وطيسها، وكان ذلك بسبب أعمامه الذين اشتركوا فيها، ولعله كان يود مشاهدتها، لأن له قلبا طاهرا، لا يسكن والناس فى كرب، فكان يشاهد، وإن لم يقم بعمل فيه حرب، ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمله الدافع للأذى، وليس فيه أحداث:«كنت أنبل على أعمامى» أى أمنع النبل عن أعمامى، فهو كان درعا واقية لأعمامه، فلم يغمس يده فى حرب إلا أن يكون واقيا لذوي رحمه كالئيه الذين رعوه حق الرعاية.