وعقله المدرك لمصيره بقابل حياته فى قابل عمره، فهو يعد نفسه للتجارة عمل قومه، ومكتسب أرزاقهم ومنشط قواهم، فألح على عمه أبى طالب أن يأخذه معه إلى الشام فى قافلة تجارة قريش، ليكون على خبرة بالصفق فى الأسواق، وليتعلم المصادر والموارد، وذلك وهو فى الثانية عشرة من عمره حتى إذا عاد من هذه الرحلة المباركة عاد وقد امتلأ عقله تجربة، فيمارس التجارة صغرت بضاعته أو كبرت، وهو على بينة من أمرها، عليم بأسواقها، والرائج منها والكاسد.
ولكمال عقله كان الشاب التاجر يحضر مجتمعات قريش، فهو يحضر ندوتها فاحصا ما يقال فيها من حق يرضاه، وباطل يجفوه ولا يقره، ويحضر حلف الفضول، ويرى لعقله الكامل المدرك أنه لا يسره به حمر النعم، ولا يرى نصرة للحق أقوى منه، ولو دعى به فى الإسلام بعد أن عم الحق، لأجاب تكريما له وإعلاء لقدره.
وهكذا نراه قد أوتى عقلا مدركا، وعمل على تغذيته بالتجارب والاتصال بالمجتمع ليعرف خيره وشره، ويعمل على علاج أدوائه، إن واتاه الله تعالى بفضل من عنده.
وإننا ونحن نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظاهر نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، فهو قد نفر من عادات الجاهلية التى كانت تحرم وتحلل من غير بينة ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة. فلم نره يسجد لصنم قط، لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ويكره ذكر الأصنام، وعبادتها. فيستحلفه الراهب باللات والعزى فيقول الغلام: ما كرهت شيئا كما كرهتهما.
ويختلف مع تاجر، فيستحلفه التاجر باللات والعزى، فيمتنع، فيسلم له التاجر بحقه من غير حلف لأمانته.
وأى عقل أكمل من أن يرى قومه ينحرفون عن إبراهيم فى حجه، ويذهب فرط حرصهم واعتزازهم بالبيت ألا يقفوا بعرفات فيجيء الرجل العاقل المكتمل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ويتعرف مناسك إبراهيم، فيقف بعرفات فى ميقاته، إن ذلك كله لا يكون إلا من رجل عاقل يعمل عقله فى هدأة من غير مجادلة، لأن المجادلة تحدث المنازعة، وحيث كانت المنازعة كان الريب، وتبددت الحقائق بين المتنازعين.
لقد علمت قريش كلها بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكما، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت السيوف تمتشق، والمعارك أن تنصب، فلما نادته القرعة أن أقدم، وافصل بين الناس بالحق، رضوا بحكمه، لأنه سيكون حكم العقل والحق، وأى شخص غير عاقل وحكيم كان يهتدى