ولكن إن كانت المواجهة بينه وبين زعماء الشرك وجها لوجه، ورأى فيهم استهزاء مقيتا، وانفرد بهم، بيّن بأس الله تعالى عليهم، وقوته، وما وهبه الله تعالى من هيبة ربانية، ولنذكر من ذلك واقعتين.
إحداهما- أنه يروى عمرو بن العاص أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطوف بالبيت، والملأ من قريش جالسون فى فنائه، فكلما مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غمزوا بالقول، فيبدو ذلك فى وجهه، وكرروا ذلك حتى أتم الطواف سبعا، ثم التفت إليهم، ووقف وقال لهم فى قوة المؤمن، وعزمة الصادق، وهيبة القائل: يا معشر قريش شاهت الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس؛ لقد جئتكم بالذبح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فراعهم قوله وأفزعهم، فما كان منهم أحد إلا كان يرفوه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا. ما علمنا عليك شراقط.
ولا شك أن الهيبة الإنسانية التى منحها إياه رب العالمين كانت هى الفاصلة فى هذا، وما كان النهديد الذى ساقه عليه الصلاة والسلام له الأثر النفسى، إلا لصدوره عن مهيب قوى.
الثانية- أن أشد الناس طغيانا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن هشام الذى سماه التاريخ الإسلامى بحق أبا جهل فقد كان فاجرا، لا شرف فى القول يقيده، ولا خلق كريم يمنعه، بل كان الحقد الدفين يدفعه، وكان النبى عليه الصلاة والسلام يصابره ليثير عطف الناس على الدعوة المحمدية، يترك هذا الطاغوت فى اندفاعه إلى الشر وصبره له. ولقد كان لبعض العرب دين عليه، فماطله، ثم امتنع عن السداد فرأى أن يستعين ببعض زعماء مكة ممن هم على شاكلته ليستأدوه دينه، فأحالوه تهكما- على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- فذهب إليه الرجل يستعين به، فذهب النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبى جهل الطاغية، وطرق الباب، فخرج إليه، وفرائصه ترتعد، من هول العزمة المحمدية، فقال له النبى عليه الصلاة والسلام: أد للرجل دينه، فذل كبرياؤه كبرياء الجاهلية، وأحضر المال وسدد الدين صاغرا، وصار هو أضحوكة الجاهليين أشباهه.
وكان عليه الصلاة والسلام يخفف من جأش من تناله هيبته عليه الصلاة والسلام. دخل عليه رجل، فأصابته من هيبته عليه الصلاة والسلام رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام:«هون عليك، فإنى لست بملك، انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .
وروى أبو هريرة: دخلت السوق مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: وأرجح أى (أوف الميزان) ، فيثب التاجر إلى يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقبلها، فجذب يده، وقال: هذا ما يفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال صلى الله عليه وسلم:«صاحب الشيء إحق بشيئه أن يحمله» .