للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن الشفقة ودواعيها، والحرص على الواجب والعدل، ليتجلى فى أمر زوج ابنته، فإنه كان أسيرا فى غزوة، فلم يعفه من واجب الفداء ورفض أن يفك أسره إلا بفداء، فأرسلت زوجه زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام إلى أبيها تفدى زوجها بحلية عندها كانت أهدتها إليها فى عرسها أمها خديجة أعز النساء على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، عندئذ التقت أمور كلها تؤثر فى القلب الشفيق فى الرجل العادل، ففيه الشفقة على ابنته، وفيه الذكرى، لأوفى النساء له وأبرهن به، وأحناهن عليه، وأعزهن عنده، وفيه ما يجب عليه من عدل غير مفرق بين أسير وأسير، فهنا التكليف الشاق، والإحساس القوى، فمحمد يبكى من فرط ما جاش فى نفسه من ذكري، وما يدعوه الواجب، فيجمع أصحاب الحق فى الفداء، وهم الغزاة المجاهدون، ويعرض عليهم النظر فى واجبه، والرفق بإحساسه، وما هو بالذى يفرض عليهم الرأى. فيكون الرأى من أصحاب الحق فيه أن يعيدوا الحلية إلى صاحبتها.

وهنا نجد محمدا عليه الصلاة والسلام يجمع بين شفقة الأبوة وذكرى الزوج البارة، الحانية العطوف، والواجب العادل الذى عليه أن يؤديه.

وإن شفقته الأبوية التى لا تتعارض مع الواجب، أولا يعارضها واجب من العدالة، والتسوية بين الناس لتبدو فى شفقته، على ابن زينب، وهو يحتضر، فقد أرسلت إلى أبيها نبى هذه الأمة، ولكن الرجل الشفيق خشى من ضعف الشفقة أن يرى حفيده يحتضر، فأرسل إليها عليه الصلاة والسلام يقول لها:

«إن لله ما أخذ وما أعطي، وكل شيء عنده مسمي، فلنحتسب لنعتبر» ولكنها تصر على أن يحضر، وتقسم عليه، فقام إليها النبى، وقام معه من بحضرته من صحابته، فوضعه عليه الصلاة والسلام فى حجره، ونفسه تخرج، ففاضت عين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال له سعد بن أبى وقاص:

«ما هذا يا رسول الله، قال الرسول: هذه رحمة وضعها الله فى قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء» .

ولقد كانت الشفقة مع القيام بالواجب، تتجلى فى موت ولده إبراهيم الذى وهبه الله تعالى على الكبر، ثم استرد الوديعة، فما رؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حزن الأبوة، كما رؤى فى وفاة إبراهيم، إذ بكى من عبء ما أصيب به، كان ثقيلا، ولما رأى أسامة بن زيد محمدا صلى الله عليه وسلم يبكى صرخ، فنهاه صلى الله عليه وسلم وقال له يا أسامة: «البكاء من الرحمن، والصراخ من الشيطان» .

<<  <  ج: ص:  >  >>