وإن التاريخ ليروى أن أبا سفيان، وقد كان زعيم الشرك فى الوقت الذى جرى فيه حديث بينه وبين هرقل ملك الروم عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد سأله عن نسبه الكريم، فقال إنه من أوسطنا نسبا، وعمن يتبعونه، وعن أسئله كثيرة تتعلق بأخلاق النبى عليه الصلاة والسلام، أجابه بالصدق غير مائن فيما يقول، ولقد قال، وهو محنق من أثر الحقائق التى ذكرها لهرقل:«لولا أنى أخشى أن يحفظ عنى كذبة فى العرب لكذبت» .
فعرب مكة والمدينة ووسط الصحراء لم يكن الكذب سائغا بينهم.
وكذلك النفاق، ولم يعرف النفاق فى أوساط المسلمين الذين استجابوا إلا من اليهود ومن يجاورونهم من مشركى المدينة، فقد ظهر فيهم النفاق مقترنا بقوة المسلمين.
إذن لم يكن غريبا أن يكون محمد صلى الله تعالى عليه وسلم صادقا بين الصادقين.
ولكن صدق محمد صلى الله عليه وسلم ليس كصدق غيره من أهل مكة المكرمة ومن حولها، ولكنه صدق من أعده الله تعالى ليكون رسولا للعالمين، فأخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت من إرهاصات النبوة. فلم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم صادق القول فقط، بل كان صادق القول، وصادق الحس، وصادق النفس. ونقصد بصدق الحس بأن يكون نظره إلى الأشياء والأشخاص صادقا فى وصفها، مستبطنا من وراء الظاهر، ما يعرف حقائق استبطنها، ثم صادق فى النظر إلى نفسه، فيعرف مواضع الخير، فيفعلها، ويعرف مواضع الشر فيجتنبها، وهو صادق فى مقاصده، وصادق فى غاياته، يخلص فى إدراك الحقائق، والاتجاه اليها اتجاها مستقيما لا عوج فيه. فيستقيم إدراكه، ويصدق فى كل أمر يتصل بالقلب والضمير.
ولأن الإيمان أساسه الإخلاص فى العمل والقول والإذعان، لا يتصور إيمان مع كذب، ولقد سئل من بعد نبوته، أيكون المؤمن جبانا، فقال عليه الصلاة والسلام يجوز، وسئل أيكون بخيلا قال قد يكون بخيلا، وسئل أيكون المؤمن كذابا: قال: لا يكون المؤمن كذابا، إذ الكذب والإخلاص فى الاتجاه والقول والعمل نقيضان لا يجتمعان.
وأما الأمانة فحسبنا أن نعلم أن ذلك أمر رأته قريش كلها، وامنت به، حتى سمى بالأمين، كان يعرف بالأمانة، وينادى بالأمين، وإن الأمانة والصدق صنوان متلازمان، فلا أمانة من غير صدق، والصدق يقتضى كل الفضائل والكذب عش الرذائل.