اتجه ابتداء إلى رعى الغنم الذى تعوده وراه وهو فى بنى سعد، فرعى الغنم لبعض أهل مكة على أجرة يأخذها من لبنها، قراريط معلومة كخمس ما قدر أو نحو ذلك، وبها يستعين ويعين.
ثم كان من بعد ذلك يتجر فى قليل من المال، أو فى مال غيره حتى اشتهرت أمانته، ثم اتجر فى مال خديجة، وضاعفت له الأجر لما اشتهر به من أمانة وصدق، ولأن الربح تضاعف على يديه.
ثم كان الزواج، وكان المال الوفير، ولكنه لم يكن جماعا للمال كانزا له، فلم يعرف أنه تكونت له ثروة قط تقدر رأس مال، بل كان ينفق ما يدخر فى أوجه الخير، من صلة رحم، وإعانة محتاج، وإغاثة ملهوف، ومشاركة لذوى الحاجات فى شدائدهم ومعاونتهم على نوائب الدهر.
وبذلك يضرب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الأمثال فى الزهد الإيجابي، وليس الزهد السلبى الذى هو زهد المحرومين، بل زهده هو زهد القادرين الذين يتخذون أسباب الكسب الطيب، ثم يزهدون فى ادخار المال إلا لحاجة بعد جمعه. وبذلك سار قبل البعثة، على ما بعثه الله تعالى من بعد ذلك بالنسبة للمال.
وبذلك نرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى العمل الصالح فى طلب الرزق الحلال وفيرا، ولكنه لا يلهو به ولا يلعب، ولا يكنز الذهب والفضة، ولا يتفاخر بالخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكنه ينفقها فى مصارفها من غير عبث ولا استعلاء، ولا تكاثر.
وإذا قيل أنه لم تعرف له أبواب النفقات فى حياته قبل البعثة نجيب عن ذلك بأن الكريم ينفق سرا، ولا ينفق علنا، وإن ذلك القدر المجمل عرف من ناحيتين: - إحداهما- قول خديجة أم المؤمنين فى خطابها له مطمئنة:«إنك تحمل الكل وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتغيث الملهوف» وحسبنا ذلك لبيان هذا الإجمال.
الثانية- أنه لم يعرف له مدخر قط مع الاستقامة، والبعد عن الزخارف، مع كثرة الكسب، وما يدر عليه من مال خديجة أجرا له على استغلاله فى التجارة.
وإنه بهذا يتبين أن زهده قبل البعثة هو زهده من بعدها، طلب الكسب الحلال، لا ليدخر ويستكثر، بل لينفق منه فى مكارم الأخلاق، وإعانة الضعفاء، فهو يطلب ليعطى، ويكثر ليطعم غيره، وهو لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلا القليل بالمعروف من غير خصاصة واضحة، ولا حرمان ظاهر، بل يتناول الحلال ويكتفى بأقله، ولا يحرم مما هو طيب حلال، وكذلك كانت الحال بعد أن بعثه الله تعالى نبيا.