للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بلسان القول، بل كان يدعو بلسان الفعل، ولسان الفعل فى هذه الحال أجدى فإنه لا يصح أن تكون الدعوة إلى التقشف اتية ممن يرفل فى الدمقس والحرير، إذ تكون حاله مناقضة لمقاله، فلا يسمع له قول، ولا يقبل منه كلام.

١٥١- إن النبى عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة كان يحمل كل ضعفاء المؤمنين، فما يكون له من كسب من تجارته فى مال أم المؤمنين خديجة ينفقه على الضعفاء من المؤمنين، وهم أول من اتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد امتنع المشركون عن إطعام الضعفاء وخصوصا الذين يؤمنون، بل أرهقوهم عذابا وعسفا وهوانا، وكان يواسيهم بالعطاء وطلب الصبر، والفرج القريب إن شاء الله تعالى، لا يألو جهدا إلا بذله، وهو يكتفى بالقليل من العيش الذى يقيم أوده، ليتحمل عبء الدعوة، والقيام بحقها.

ولما هاجر إلى المدينة، وانشغل بالإسلام عن التجارة التى كانت المرتزق له، ويظهر من مجرى التاريخ أنه قد أنهاها قبل الهجرة، وربما يكون قد صفاها بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضى الله تبارك وتعالى عنها، وصار رزقه من بيت المال الذى يعمل فيه، إذ هو العامل الأول، وله الاستيلاء على خمس الغنائم بمقتضى الولاية العامة الإسلامية كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «١» .

عندما صارت نفقته من بيت المال، أو من الغنائم، وإنها لتكون بأشق جهد يبذله وأعظمه. علا زهده عليه الصلاة والسلام فى المال والعيش الرغيد، ولولا قيام الأود، وأنه لابد من لقيمات يقمن صلبه، لزهد حتى فى اللقمة القفار.

كان عليه الصلاة والسلام ينام على الحصير، حتى يؤثر فى بدنه الكريم، ويروى عن ابن مسعود أنه قال: «إنه عليه الصلاة والسلام نام على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه، وأقول ألا اذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك تنام عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: «مالى وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها» .

وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوسد بحشية من ليف، وراه عمر بن الخطاب، وهو على مثل هذه الحال، فبكي، فقال له النبى الزاهد: وما يبكيك؟ فقال عمر: ومالى لا أبكى، وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على هذه الحال التى أرى، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة، قال: بلى، قال: هو كذلك.


(١) سورة الأنفال: ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>