وهو بهذا ينظر نظر الأريب إلى موضوع القضية، ليتعرف موضوع الاعتداء، ومن الذى كان السبب، ثم فيه إشارة إلى من دفع عن نفسه الظلم، وتعين عليه ألا يدفع الظلم إلا بأذى ينزل بالاخر، فهو بريء مما يترتب على فعله، والمتسبب هو الذى يبوء بالاثم ولو كان هو الذى نزل به الأذى.
وكان عليه الصلاة والسلام يلاحظ فى قضائه ثلاثة أمور:
أولها- العدل بين الناس والمساواة بينهم فى تنفيذ أحكام الله تعالى لا فرق بين أمير وسوقة، ولا بين شريف وضعيف، بل الجميع أمام القانون سواء. وفى المأثور «الناس سواسية كأسنان المشط» .
ثانيهما- أنه يلاحظ الأثر إلاجتماعى لحكمه، فهو يغلظ العقاب على من يكثر فساده، حماية للجماعة المسلمة من شره.
ثالثها- أنه لفرط إيمانه بالعدل يخشى أن يقع منه ظلم لأحد، بسبب من يدلون بالحجة فى فصاحة منهم وعجز غيرهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وهو العدل الأمين: إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الاخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار» .
وفى الحق أن النبى عليه الصلاة والسلام كان عدلا فى ذات نفسه، وعدلا فى كل ما يقوم به، وعدلا فى أحكامه، ويغلب المساواة فى كل شيء حتى فى الهدايا تهدى إليه باعتباره كبير المؤمنين، ويقول فى ذلك ابن القيم فى زاد المعاد فى هدى خير العباد. وقد جاء فى صحيح البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها فى ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة ابن نوفل، فجاء ومعه المسور ابنه، فاستقبله، وقال يا أبا المسور خبأت لك هذا.
وهكذا نرى العدل يعم ولا يخص، وإنه كما ثبت من تاريخه قبل البعثة وبعدها لم يظلم، ولم يضيّع حقا لأحد، بل كان الحريص على حق غيره الحفيظ عليه.
وكان يعوض من يهدى من أصحابه إن تمكن من التعويض، ويهادى من يهاديه، لأن الهدية محبة، وهو عليه الصلاة والسلام يبادل المحبة بالمحبة فهو عادل حتى فيما تبعثه العاطفة، ويدعو إليه الود.