هذه حقائق سائغة، لا ريب فيها، ولا اختلاف، ولا تثير ريبا ولا خلافا.
ولكن الروايات تجىء بما يفيد ظاهرها المعارضة بينها وبين ذلك الحق الصادق الذي لا ريب فيه، ولا مجال للريب فيه، ولنذكر بعض هذه الروايات لنبين أنه لا تعارض فى حقيقة الأمر.
لقد ثبت فى الصحيحين البخارى ومسلم عن يحيى بن أبى كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أى القران أنزل قبل غيره فقال: «يا أيها المدثر» فقلت: واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ؟
فقال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فنوديت فنظرت من بين يدى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو على العرش فى الهواء، فأخذتنى رعدة، أو قال وحشة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى فأنزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وفى رواية أخرى ما يشير بأن هذه الاية ليست الأولى، وليس ما فيها أن رؤية جبريل روح القدس الأولى، فقد قالت: فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض «١» فجنبت منه فرقا- إلخ، وهو ذكر لما تضمنه الضمير فى الرواية الأولى التى تقول:«فإذا هو على العرش فى الهواء» .
وإن هذا يفيد بلا ريب أن الوحى جاء ابتداء فى غار حراء، وفيها نزل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثم جاء ثانيا وليس أولا كما توهم أبو سلمة نزول الوحى «يا أيها المدثر» .
وإن نظرة فاحصة تبين لنا أن أول القران الكريم نزولا هو اقرأ، كما هو الأصل الذى لا مراء فيه، ولكن فترة الوحى هى خمسة أشهر وبعض الشهر، ثم جاء فيها الوحي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ... وقد انتهينا إلى أن الفترة ابتدأت بعد أن نزل قوله تعالى اقْرَأْ فى رمضان من سنة ٤٠ هـ، وانتهت الفترة فى ربيع سنة ٤١ هـ من عام الفيل.
والحق أن الروايات غير متضاربة للمتأمل البصير، فإن أول ما نزل بالقران الكريم لم يكن فيه الأمر بالتبليغ، بل كان فيه اللقاء بروح القدس، والإعلام بالقران الكريم، ويمغزاه الأول، وهو تعليم الخلق، وبيان الحق، وأنه كتاب الله تعالى، يقرأ باسمه ويعرف به ذكره، أما تكليف القيام بالتبليغ، فقد جاء فى قوله تعالي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.
وإلى هذا أشار ابن كثير، فقال فى الرواية التى جاءت فى البخارى عن عبد الرحمن بن أبى سلمة: «لا ينفى هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ثم التقى به جبريل بعد نزول قوله تعالي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، ثم حمى الوحى وتتابع- أى تدارك شيئا بعد شيء- وقام حينئذ رسول الله صلى الله تعالى