للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما زالوا به حتى اقتنع بألا يستمع، وحشا أذنه قطنا لكيلا يسمع، ولكنه غدا إلى الكعبة الشريفة، فرأى على البغتة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحاول لما أوصاه رجال قريش ألا يسمع، ولكنه بما وهب الله تعالى رسوله الأمين من طيبة ظاهرة تجذب إليه القلوب الصافية أبى إلا أن يسمع بعض ما يقرأ به عليه الصلاة والسلام، ولنترك الكلمة للرجل ليخبر عن نفسه، فالقول قوله فى شأنها، والإخبار عنها، قال رضى الله عنه: قلت فى نفسى، واثكل أمى، والله إنى لرجل لبيب شاعر، ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيته، فدخلت عليه، فقلت: يا محمد (صلى الله عليه وسلم) إن قومك قالوا: لى كذا وكذا. فو الله ما برحوا يخوفوننى أمرك حتى سدوا أذنى بكرسف (قطن) لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله تعالى إلا أن يسمعنى قولا حسنا، فاعرض على أمرك، فعرض علىّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاسلام، وتلا علىّ القران الكريم، فلا والله ما سمعت قولا أحسن منه، ولا أمرا أعدل، فأسلمت وشهدت شهادة الحق.

وكان الطفيل هذا رجلا مسموع الكلمة فى قومه شريفا بينهم لم يعرف بقول الزور ولا الباطل فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا طائعين، وكانت دوس على الإسلام إلى أن جاء عصر الجهاد بالسيف، فجاهدت مع المجاهدين وحاربت المشركين فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، وحاربت المرتدين من بعده، وكان لها قدم ثابتة فى الإسلام.

ولم يجد منع قريش، فالنور لا يقع فى قبضة أحد، بل إنه يسرى شعاعا مضيئا هاديا مهما تكن الظلمات المتكاثفة، هذا الرجل الأول الذى جعلناه مثلا لشيوع أمر الرسالة المحمدية بعد القطيعة وفى أثنائها، فكان كل ما عمل ضد محمد عليه الصلاة والسلام، وما قام به يكون فى نتيجته خيرا لدعوة التوحيد، ونداء الحق البين.

من هذه القصة وأشباهها، وإنها لكثيرة نجد أن الإسلام أخذ يسرى إلى الجزيرة العربية قاصيها ودانيها، والنبى عليه الصلاة والسلام قطب دعوة التوحيد مقيم فى مكة المكرمة مثوى العرب أجمعين، لا يسكت ولا ينى، بل يستمر فى دعوة الحق، يستمع إليه الضعفاء وبعض الأقوياء بينهم بصلواته يجهر بها ولا يخافت، والمشركون يستهزئون ظاهرا، وهم مأخوذون بها باطنا، بقدر حملتها على الشرك الذى يستمسكون به ويلاحون عنه بظاهر من عصبية، وحقدا وحسدا، لا إيمانا ويقينا، ولكنهم قوم فى ذات أنفسهم مترددون، والمترددون يثير حنقهم وغضبهم المستيقنون المؤمنون، وكذلك كانت المعركة بين حق لائح مبين، وباطل متردد فى ذاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>