وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يراد جبريل عليه السلام ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى أى نزل وقرب من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
عن طريق جبريل، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهو جبريل أيضا وقوله سبحانه وتعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى توميء إلى أن الايات الكبرى التى راها كانت بفؤاده لا ببصره، وقوله سبحانه وتعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أى ما كل وما تجاوز حده، والنفى فيه ما قد يكون لأنه لم تكن رؤية بالبصر. حتى يكل المبصر أو يتجاوز حده، وقد يكون لبيان أن البصر لم يتجاوز حده ليطغى، ويحاول أن يرى ما لا يمكن أن يراه، ويزيغ بأن يكل ويمل، ويلقى فى النفس ما لم ير.
وإننا عند هذا النظر الفاحص ننتهى إلى أن الإسراء إذا كان بالجسد والروح، فإن المعراج كان بالروح فقط، وأنه كان رؤيا صادقة، وقد اتجهنا إلى ترجيح ذلك لما يأتي:(أ) أنه ذكر فى المعراج أنه التقى بالأنبياء ادم وإبراهيم وموسى ويحيى، وغيرهم، والباقى منهم هو أرواحهم، وأجسامهم سيبعثها الله تعالى يوم البعث والنشور، وفرض أنه بعثها ثم أفناها فرض بعيد لم يذكر فى حديث من الأحاديث، ولا خبر من الأخبار، ولو ضعيفا، وكل فرض فى أمر غيبى لا دليل عليه من المنقول فهو رد على قائله إلا أن يكون أمرا يؤدى إليه البرهان العقلى، ولا يوجد شيء من المنقول ولا المعقول يقرر إعادة أجسام الأنبياء الكرام أحياء، ثم إعادتها إلى الفناء.
(ب) إن العبارات القرانية الكريمة الواردة فى المعراج توميء بل تصرح بأن الأمر فى هذه الرحلة السماوية كان روحيا وأن الإدراك لم يكن بالحس، بل كان بالقلب والفؤاد، فالله تعالى يقول:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى فالحديث القرانى كله كان فى إثبات رؤية الفؤاد، وأنه لا تجوز المماراة فيما رأى الفؤاد الذى لا يكذب، وذلك لا يتحقق إلا بأن تكون الرؤية روحية، لأن رؤية القلب لا تكون إلا روحية، وأنه عندما ذكرت حاسة البصر ذكرت بالنفي، لا بالإيجاب، وقد بينا مؤدى النفى فى هذا.
(ج) أن أخبار المعراج تصرح بأنه رأى ربه، والرؤية القلبية ممكنة باستحضار عظمته، وبالسبحات الروحية المتجهة إلى الله سبحانه وتعالى وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قرر أنه لم ير ربه فى حديث أبى ذر الغفارى، فقد قال عليه الصلاة والسلام فى إجابة سؤال الصحابى الجليل أبى ذر:«إنه نور، فأنى أراه» .
وإننا لا نتعرض فى ذلك لكون رؤية الله تعالى يوم القيامة ممكنة، أو غير ممكنة، فذلك يوم القيامة بعد البعث والنشور، وذهاب أهل الجنة إليها، وإبقاء أهل النار فيها، فإن الكلام فيها غير الكلام فى الدنيا، ونحن نحس ونرى، فإن كانت رؤية الله تعالى الان فهى بالعين الفانية، ورؤية أهل الجنة عند من يثبتونها تكون بالعين الباقية، والله أعلم كيف يرى.