رأى المشركون أن مكة المكرمة قد خرج منها الذين اتبعوا محمدا عليه الصلاة والسلام، ليتجمعوا، وليكونوا مع أهل يثرب قوة تقاوم الشرك وتنقض على المشركين، وأنهم بلا ريب أشد أعداء محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه، فلابد أن تكون تلك القوة عليهم، وأن عليهم أن يتداركوا الأمر قبل أن يستفحل، وأن تتحقق المارب.
وإذا كان الأتباع قد هاجروا، ولم يبق إلا ضعيف أو عبد، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يزال بين ظهرانيهم، وهو الرأس وغيره أتباع، فإذا نالوا منه، فقد تحقق مأربهم.
قال ابن إسحاق فى سيرته: لما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم، وغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم- عرفوا أنهم أصابوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.
اجتمعوا فى دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب، وكانت مجتمع أمر قريش، لا يقضون أمرا ذا بال إلا فيها، اجتمع فى الندوة كبراء قريش، ودلف عليهم رجل من نجد، حضر جمعهم، قيل إنه إبليس، وإن لم يكن هو فهو مثله خبثا.
تشاوروا فى أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا.
فقال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذى كانوا قبله، ومن مضى منهم من هذا الموت.
قال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ولئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا إليكم، لينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره.
فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فو الله ما نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إن غاب عنا، وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
فقال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، فو الله لو فعلتم ما أمنتم أن يحل على حى من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم فى بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، فروا فيه رأيا غير هذا.