ولكن قد يسأل سائل: لماذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا. ونقول في الجواب عن ذلك إنه لم يكن بدعا من الرسل في ذلك، لأن موسى وهو من أولى العزم من الرسل حارب، ودعا بنى إسرائيل إلى الإيمان، ولكنهم ارتدوا على أدبارهم فانقلبوا خاسرين، وقالوا وحال الذلة والجبن تدفعهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (المائدة- ٢٤) .
والمذكور في التوراة التى بأيديهم أن موسى عليه السلام حارب ملوكا، واخترق بجيشه ديارهم، وداود عليه السلام حارب وقاتل. وكذلك ابنه سليمان.
وإذا كان عيسى عليه السلام لم يقاتل، فلأنه ما شرع له القتال، وكأنه كان تمهيدا للبعث المحمدى إذ أن بينهما مدة ليست كبيرة، تبلغ نحو ستمائة سنة أو تزيد قليلا.
وأن رسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كانت للناس كافة، للأحمر والأسود والأبيض، فكانت لابد أن تجتاز الأقطار، وتصل الدعوة قوية إلى الأمصار، وأن ذلك لا يكون إلا بالاستعداد للقتال. إذ أن العالم كان محكوما بالملوك الغاشمين، والرؤساء الظالمين.
وإن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت بمباديء هى ضد الحاكم، وقد قاتلوه عليها، فكان لا بد أن تكون قوة مانعة من الظلم دافعة بالحق، فكان لا بد من الحرب أو الاستعداد لها.
وإن الناس لا يستقيم أمرهم إذا لم تكن للمبادئ العادلة قوة تحميها بالحق من غير اعتداء، وفضيلة الإسلام ليست فضيلة خانعة ضعيفة مستسلمة، ولكنها فضيلة قوية دافعة للشر، حاملة على الخير، فليس فيه «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» ، وإنما فيه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة- ١٩٤) .
وفيه العفو والصبر، إذ يقول سبحانه وتعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا (البقرة- ١٠٩) والعفو لا يكون إلا بعد أن يكون الأمر للإسلام، فلا عفو إلا عن مقدرة، ويكون عزا ولا يكون استسلاما، فقد قال عليه الصلاة والسلام:«ما زاد عبد بعفو إلا عزا» وأمر سبحانه وتعالى بالصبر، فقال سبحانه وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- ١٢٦) وإن الصبر يوجب ألا يندفع الجيش إلى القتال، بل يصابر، عسى أن يكون الصلح، وألا تخرج السيوف من أغمادها. كما كان يفعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يوصى جيوشه بذلك.
وإن الصفح الجميل عمن آذوا أهل الإيمان يحتاج إلى صبر وقوة نفس، فليس الصبر فقط في لقاء الأعداء، إنما يكون في ذلك، وفي فطم النفس عن شهوة الانتقام.