اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وذلك بعد قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ (البقرة- ١٩٤) .
ونجد من هذه النصوص أن ابتداء الاعتداء كان من المشركين، وأنه كان لاعتداء المشركين على الحرية الدينية وفتنة المؤمنين في عقائدهم ليحملوهم على تركها. وإننا إذا أمرنا برد الاعتداء بمثله، طلب منا مع ذلك طلبان جليان آخران وهما: النهى عن الاعتداء، فنهينا عن الاعتداء، والاعتداء بأن نقاتل من لم يبدأنا بالقتال، ولم يمنع الدعوة الإسلامية من السير في طريقها، والطلب الثانى أمرنا بالتقوى، وهو التزام الفضيلة، فإن كانوا يعتدون على الأعراض لا نجاريهم، وإن كانوا يمثلون بالقتلى لا نمثل بقتلاهم كما سنبين إن شاء الله تعالى.
لقد علمنا مما قصصنا من السيرة الطاهرة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكث يدعو إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة توالى فيها الأذى على المؤمنين، وخصوصا ضعفاءهم، ولم يسلم من أذاهم إلا من يكون ذا بطش يخشى بطشه كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، ومع ذلك لم يسلموا من الأذى تماما، بل كانت سلامتهم نسبية.
ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسلم من آذاهم، حتى رموا عليه وهو ساجد فرث جزور، حتى لقد هموا بقتله عليه الصلاة والسلام، ليلة الهجرة، وقد هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهاجر من كان عنده قدرة على الهجرة.
ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم الذى ارتضوا، والمشركون سادرون في غيهم. وترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ضعفاء، لا قدرة عندهم على الهجرة، وهم يعذبون أشد العذاب، فهل من مقتضى الرحمة أن يترك هؤلاء يعذبون، ويلقى بهم في المحابس، إنه لا بد من أن يذوق الذين يؤذونهم وبال أمرهم.
وننتهى من هذا ومن النصوص السابقة إلى أن الباعث على الحرب دفع الاعتداء، ومنع الأذى المستمر، وعقوبة الظالمين، وتأمين الدعوة الإسلامية حتى لا تكون فتنة في الدين، ويتبع الناس الدليل، ولم يتبعوا الحكام الذين يرهقونهم ويسومونهم الخسف والهوان.
هذا هو أمر القتال في شبه الجزيرة العربية، الذى ابتدأ في قريش. ثم عمم أجزاءها عند ما اجتمعت القبائل على حربه في غزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق، وأرادوا اقتلاع الإسلام من قصبته في المدينة الطاهرة، فنزل قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (التوبة- ٣٦) .