أولا- اعتزال الناس جملة، والخروج عن الحياة التى يحياها الناس لأنفسهم آكلين شاربين متمتعين بحلاوة الحياة وما فيها.
وثانيا- أن الراهب يعتزل النساء، والمجاهد التقى الذى نال شرف الجهاد ومعناه يعتزل النساء وينقطع عن الأولاد في مدة الجهاد، وهم فلذات كبده.
وثالثا- أن كليهما قد قدم نفسه لله سبحانه وتعالى- الراهب بالعبادة ليسمو في نظره إلى الروحانية التى تقربه من الله سبحانه وتعالى في زعمه. والمجاهد قد قدم نفسه فعلا لله سبحانه وتعالى ليحمى الحق الذى أمر الله بنصرته، وترى أن المشابهة قائمة، وإن اختلف القصد في كليهما.
ومن هنا كان موضع الافتراق، فالراهب يعتزل الناس لأجل نفسه وعبادته الانفرادية، أما المجاهد فيعتزل الناس، ليحمى الناس، وينفذ أمر ربه، فالأوّل عبادته في دائرة وجوده الشخصى لا تعدوه، والثانى عبادته في دائرة النفع العام. والأوّل لا تخلو عبادته من أثرة، والثانى عبادته كلها إيثار.
وإن الإسلام منع الرهبنة، لأنها فرار من الحياة ومتاعبها، ولذلك تعتبر القوانين الأوربية الرهبان في حكم الأموات، والرهبنة موت اختيارى، والإسلام لا يريد للمتعبد هذا الموت ولا ذلك الفرار، ولكنه يريد المؤمن نافعا للناس، حيا في وسط الأحياء، حاميا لهم من المضار، جالبا لهم المنافع، إذ ليست العبادات الإسلامية سلبية، بل هى إيجابية، هى المشاركة في رفعة النوع الإنسانى، ولذلك يعد كل نفع للأحياء صدقة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:«ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو دابة إلا كتب له به صدقة» وإنه ليس معنى ذلك أن الروحانية في الإسلام لا وجود لها، بل إن لها المقام الأوّل، ففى الصوم والصلاة والحج روحانية، بل كلها روحانيه، وفي الاعتكاف روحانية، ولكن روحانية الإسلام ليست انقطاعا عن الحياة والأحياء، بل هى مع ما فيها من سمو نفسى، وتجرد من الجسم وأهوائه وشهواته، هى لتحسين العلاقات الإنسانية، وأن يكون المؤمن مألفا يألف الناس، ويألفونه.