وقد سألوا سؤالا آخر عن القرآن الكريم ليشككوا في أمره، وهو حجة الرسالة المحمدية، ودليلها الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قالوا: أحق يا محمد، إن هذا الذى جئت به الحق من عند الله، فإنا لا نراه منسقا، كما تنسق التوراة.
فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤا به» .
فوجهوا السؤال إلى ناحية أخري، لأن اعتراضهم واهن، إذ أن نسق القرآن الكريم لا يمكن أن يوزن به نسق التوراة، ولو كانت هى الألواح العشر التى نزلت على موسي، فلكل نبى معجزته وآياته.
حولوا السؤال إلى ناحية أخرى قد توجد شكا. قالوا: يا محمد. أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وإنى لرسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة» .
قالوا في لجاجة: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا نقرؤه، وإلا جئناك بمثله.
يذكرون بهذا أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- ٨٨) .
ولسان الحال يقول: ائتوا إن استطعتم، ولكنكم لا تستطيعون، وفيصل الأمر أن تأتوا، ليتبين أمركم، وينكشف خبىء مكركم وضلالكم، إذ تسفهون في أنفسكم بما لم يسفه به المشركون.
ويسألون سؤالا آخر يدل على عقليتهم المادية، وعلى عدم معرفتهم الله سبحانه وتعالى، وصفاته العلية الذى ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم.
وذلك أنهم كانوا متأثرين بالفلسفة اليونانية التى كانت تؤمن بالأسباب والمسببات، ولا تؤمن بغيرها.
فالأسباب العادية جعلوها قانون الوجود، فكل شيء نشأ بالعلية، فالوجود الإنسانى والخلق كله معلول لعلة، والعلة سبب عن آخر، وبهذا أخذت الفلسفة اليونانية، فيحسبون أن العالم كله نشأ بقانون العلية، عن الأوّل، وهو علة لما قبله، وبذلك يكون التسلسل لما لا نهاية.