ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يدعوهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، تاركا ما يعرف من أن قلوبهم تنضح بالحقد يبدو على ألسنتهم، فالداعى إلى الحق لا ينى عن الدعوة إليه، ولو كان من يدعوه يهوديا لا يؤمن بشىء، ولا يرضى إلا بالخبال للمؤمنين.
التقى بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسوق قينقاع فحدثهم حديث الجار لجاره الذى عاهده يدعوه إلى الرشد، قال عليه الصلاة والسلام لهم:«يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله تعالى إليكم» فأجابوا هذا الحديث الرشيد الودود بكلام فيه جفوة وحدة قائلين:
يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أننا الناس.
لقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الجواب المرعد المنذر بالإغضاء، فما كان يحارب المعتدى بالقول، ولكن كان يحارب الفعال.
وذكر ابن إسحاق أن الله تعالى قد أجاب عنه بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (آل عمران- ١٣) .
وهذه الرؤية المضاعفة كانت حال اللقاء في الحرب، إذ كانوا يرون أنفسهم رأى أعينهم مثل المؤمنين، والله تعالى هو الذى يؤيد بنصره من يشاء قلة كانوا أو كثرة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله..
ولكن بنى قينقاع لم يقفوا عند حد القول، فى بث روح التفرقة والشك في أنفسهم، بل انتقلوا من الإساءة بالقول إلى الإساءة بالفعل، وهم على كثب من المسلمين، وكانوا يجاهرون بنقض العهد وأنهم لا يحترمونه، ويتناولون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بالذم، والأذى.
ولقد قال ابن إسحاق: إن امرأة من المسلمين قدمت تبيع في سوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ الماجن فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون، فكان الشر بينهم وبين بنى قينقاع.