وهنا نقف وقفة قصيرة، فإن هذا الكلام يدل على أن زرادشت كان نبيا، وأن ديانته ديانة سماوية، وإلا ما اشتملت على هذه البشارات، وما كان لها عندنا اعتبار، لولا أصلها السماوي، وكيف يتفق هذا مع ما يقال فى كتب الفرنجة من أن زرادشت كان يدعو إلى القوة، وإلى معاضدة الأقوياء، وإفناء الضعفاء حتى وجدت فلسفة فى أوربا تدعو إلى إفناء الضعفاء.. وألا يكون لهم مكان فى الوجود، وذلك يتنافى كل المنافاة مع أخلاق النبوة السماوية، وما تدعو إليه الأخلاق الإنسانية الكاملة، فإن حق الحياة ثابت لكل الأحياء، والضعيف لا يموت أو يبخع بحق قانون الأخلاق وقانون السماء، ولكن يعاون ويعيش، حتى يبلغ أجله.
والجواب عن ذلك أن هذه النصوص موجودة فعلا فى كتب الزرادشتية وهى تؤدى بمنطقها إلى أنها جاءت على لسان رسول فى كتاب سماوي، فقد وقعت الحوادث، كما ذكرت، فقد تضعضع الشعب الفارسى فعلا، وأدخل أرضه العرب فعلا، وكان الفارسيون حملة العلم الإسلامى الذى كان رحمة للعالمين. وذلك لا يكون إلا من وحى السماء. فليس لنا إلا أن نقول أن هنا رسولا ورسالة، وكتابا ينطق بوحى الله تعالى.
أما ما ينحل إلى زرادشت من أنه كان يدعو إلى القوة فإن كان يراد بها أن يكون المؤمن برسالته قويا فى خلقه وعقله وجسمه، فإن ذلك حق، وهو يتفق مع مباديء الأخلاق، ورسائل الرسل، وقد أثر عن محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف، وفى كل خير» وليس فى هذا ما يمنع أن يكون نبيا مرسلا، داعيا إلى التوحيد؟
وإن كان يراد أنه يغلب القوة على الحق فذلك باطل، وتقوله أوهام الأوربيين وهو جدير بساستهم، ولا نظن إلا أن فلاسفتهم الذين زعموا هذا قد حرفوا القول عن مواضعه، كما حرفوا دعوة المسيح عليه السلام، وادعوا له الألوهية وهو منها براء، وما قال لهم إلا ما أمر الله تعالى به.
وكذلك ما يزعمون من أنه أوجب إفناء الضعفاء، إنه فيما نرى دعا أهل الإيمان إلى أن يدرعوا بالقوة، وأن يعالجوا الضعيف، لا أن يفنوا الضعفاء.
وخلاصة القول فى هذا المقام أن البشارات جاءت فى هذه الكتب، وهى صادقة فيما قالت، وتنتج إثبات النبوة لمن وجدت فى كتبه، وليس لنا أن نطعن فى صدق ما تنتجه، لمجرد أوهام توهمها ناس ينكرون الواحدانية، وادعوا على عيسى أنه إله، أو أنه ابن الله، فليس غريبا أن يدعوا على غيره ما دونها.
وقد يقول قائل إن القران الكريم عندما ذكر الذين بشروا بالنبى صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر هؤلاء، بل ذكر أن الإنجيل فيه أن المسيح عليه السلام بشر برسول يأتى من بعده اسمه أحمد، وذكر أن التوراة فيها محمد