للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن الناظر إلى أدلة الذين أباحوا التخريب في غير ضرورة ملجئة، لا يجدها منتجة لإباحته بإطلاق فإن تخريب النبى لبيوت بنى النضير، لأنهم اتخذوها حصونا يقذفون منها الحجارة على المؤمنين، فكان لا بد أن تزال تلك الحصون دفعا للأذي، فكانت الضرورة ملجئة لذلك، وقد قرر الجميع أن الضرورة تقدر بقدرها.

وإن قصر عوف بن مالك كان قد اتخذه حصنا، وكذلك الحصون التى رميت بالمنجنيق في ثقيف، فما كان رميها إلا لضرورة حربية، لا للتخريب والإفساد.

أما ما هم به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قطع كروم العنب لثقيف؛ فلأنهم كانوا يتخذون منها الخمر، والخمر حرام، ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطع، وإنما أمر فقط بالقطع، أو قطع قليلا لإفزاعهم، وذلك ليحملهم على التسليم بدل الاستمرار على القتال، وبذلك تحقن الدماء، ولذلك سلموا بمجرد أن رأوا المسلمين يعتزمون قطعها.

وإنه بمراجعة الشريعة في مصادرها من كتاب وسنة وآثار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته الكرام نجد أنها لا تدل على جواز التخريب، بل تمنعه.

ولنقف عند الآيات الكريمة التى تلوناها في قصة إجلاء بنى النضير، فنجد أن الآيات لا تبيح التخريب بإطلاق وفي كل الأحوال، وأن القطع الذى ذكره القرآن إنما هو في قطع الثمار لا في قطع الأشجار، وذلك في قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها، فَبِإِذْنِ اللَّهِ (الحشر: ٥) إلى آخر الآيات الكريمات التى تلوناها.

وذلك لأن اللينة المراد بها الثمرة، والمعاجم في اللغة تؤيد ذلك. لأن كلمة لينة جمعها لون وهو بالاتفاق نوع من ثمر النخل، ولأن الآية تخير بين قطع اللينة أو بقائها على أصولها. وذلك يقتضى أن تكون ثمرة قائمة على الأصول تبقى أو تقطع، والأصول النخيل، فلم يذكر في القرآن إباحة قطعها، ولأن الآثار الواردة في غزوة بنى النضير التى هى موضوع الآيات الكريمات تفيد أن الصحابة ما كانوا يقطعون النخيل، بل كانوا يقطعون الثمر.

فقد روى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل أبا ليلى المازنى وعبد الله بن سلام على نخيل بنى النضير قبل إجلائهم، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وهى تمر جيد، وابن سلام يقطع اللون وهو تمر ردىء، فقيل لأبى ليلى: لم قطعت العجوة؟ قال: لأنها أغيظ لهم، وقيل لابن سلام:

لم قطعت اللون؟ قال لأنى علمت أن الله تعالى مظهر نبيه ومغنمه أموالهم، فأحببت إبقاء العجوة، وهى خيار أموالهم، وإن قطع الثمار لا يعد تخريبا، لأنه سيكون مأكلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>