للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد كان هرقل كما قلنا عالما، وكان حزاء أوتى علم النجوم، وعلم الملاحم، وكان حين قدم من إيلياء، وهى الأرض التى التقى فيها مع أبى سفيان ومن معه من التجار- خبيث النفس، فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك، فقال لهم إنى رأيت حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، وعلم من تحريه أن العرب يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.

وقد أرسل إلى صاحب له برومية على مثل منزلته من العلم.

وسار إلى حمص، فلم يتركها حتى جاءه كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

ونرى من هذا أنه كانت عنده أمارات قد علم بها بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الصور التى تتراءى له أنه ملك، ولكن الله تعالى قد آتاه ما هو أعظم من ذلك، وهو النبوة التى تأتى بخير الدنيا والآخرة.

وكانت هذه المعلومات سواء أكانت منتجة فى ذاتها، أم غير منتجة فإنها أثرت فى نفسه، وجعلته على استعداد لقبول الحق إذ جاء إليه، وإن المقدمات هنا، وإن كانت ظنية فى ذاتها قد مهدت لقبول الحق.

اقتنع هرقل كما قلنا بأنه الحق، وأراد أن يعرضه على الملأ من قومه داعيا إليه، فأذن هرقل لعظماء الروم أن يحضروا فى دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع عليهم فقال:

يا معشر الروم، هل لكم فى الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم، فاتبعوا هذا النبى. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.

فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من إيمانهم، قال: ردوهم على، وغير وبدل من قوله ونيته، وقال: «إنى إنما قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه» .

وهكذا غلبت عليه الشقوة على الهداية، ولقد برق له نور الحق وأضاء له، فلما هم أن يمشى فيه، وقف الملك وسلطانه، فكان الظلام بعد النور، والضلالة بعد الهداية، وأمر بقتل من قتل من المسلمين وجيّش الجيوش لحرب المسلمين فى مؤتة، وفى تبوك، ومن بعد ذلك فى اليرموك ومهما يكن من أمر نهاية الكتاب بالنسبة لهرقل والملأ من قومه، فإن الإسلام قد عرف فى وسط الرومان، وعرف فى الشام، وتذاكر به الناس، وعرف ما كان من هرقل لعظماء ملته، والنور دائما يخترق الظلام مهما تكن الحجب، والغياهب والظلمات، فالكتاب أثمر ثمراته، وإن لم يكن الإيمان عاجلا، فإنه آجل والأجل قريب.

<<  <  ج: ص:  >  >>