وإن الهجرة بعد أن صارت مكة المكرمة دار إسلام، وبها البيت الحرام، فإن الهجرة منها لتقتضى خلوها من السكان. وهم أهل البيت الحرام.
ولكن معنى ذلك أن لا تمنع الهجرة من أى بلد إلى أخرى، ولكن لا يكون له ثواب المهاجر، إذا كان الخروج لمجرد طلب الرزق، والثواب إن كان فلا يكون ثواب هجرة، ولكن يكون ثواب طلب الرزق استجابة لقوله تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً (النساء- ١٠٠) .
ولكن يكون بعد ذلك هجرة يكون فيها ثواب الهجرة وهى مطلوبة غير منهى عنها، بل يحاسب فيها المؤمن إن كان قادرا على الهجرة، ولم يهاجر، وذلك فى حال أن يعيش مستضعفا بين الكفار، يسومونه الذل والهوان، وإن خرج إلى أرض الإسلام كان التجمع القوى والوحدة الشاملة الكاملة.
ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً فإن هذه الآية توجب الهجرة على كل مستضعف فى الأرض لتكون الجماعة الإسلامية له قوة، ويكون من انضمامه لجماعة المسلمين قوة بانضمام كل بعيد عنها إليها، فإن التجمع قوة فى ذاته، وقوة عامة للمسلمين، والانفراد مع الاستضعاف ذل لبعض المسلمين. وحرمان للمجموع من قوة التجمع.
ولذلك ورد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال «الهجرة دائمة» وقال عن اجتماع الكافر بالمسلم «لا تتراءى ناراهما» .
فالهجرة التى انتهت هى الهجرة من مكة المكرمة.
أما الهجرة فلم تنته بإطلاق، ويقول فى ذلك الحافظ ابن كثير: إنه يعرض حالة تقتضى الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين فتجب الهجرة إلى دار الإسلام، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء. ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والإنفاق فى سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق، ولا الجهاد قبل الفتح فتح مكة المكرمة، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا (الحديد- ١٠) وإنه بلا ريب الجهاد قبل الفتح، لإنشاء قوة للمسلمين، والجهاد بعد ذلك لبقاء الإسلام، والإبقاء أسهل من الإنشاء فكانت لذلك أفضل والله سبحانه وتعالى أعلم بموضع الفضل والخير.