وممَّا يُقَوِّي الإشكالَ أنَّ في الحديثِ الأمرَ بالصَّلاةِ في مرابضِ الغَنَمِ، وهو بعدَ سؤالٍ، ولا يَجِبُ بلا خلافٍ، بل ولا يُستَحَبُّ.
فإنْ قُلْتَ: فإذا كانَ كذلك فلِم يَسْتَحِبُّون الوضوءَ منه، والاستحبابُ حُكْمٌ شرعيٌّ يَفتقرُ إلى دليلٍ، وعندَهم هذا الأمرُ يَقتضي الإباحةَ؟
قُلْتُ: إذا قِيلَ باستحبابِه؛ فلدليلٍ غيرِ هذا، وهو أنَّ أكلَ لحمِ الإبلِ يُورِثُ قُوَّةً ناريَّةً يُناسِبُ أنْ تُطْفَأَ بالماءِ، كالوضوءِ عندَ الغضبِ، ولو كانَ الوضوءُ مِن أكلِ لحمِ الإبلِ واجبًا على الأُمَّةِ -وكلُّهم كانوا يَأكلُونَ لحمَ الإبلِ- لم يُؤَخِّرْ بيانَ وقتِ وجوبِه حَتَّى يَسْأَلَه سائلٌ فيُجيبَه، فعُلِمَ أنَّ مَقصودَه أنَّ الوضوءَ مِن لحومِها مشروعٌ، وهو حقُّ اللهِ، واللهُ أعلمُ.
وقد يُقالُ: الحديثُ إِنَّمَا ذُكِرَ فيه بيانُ وجوبِ ما يُتَوَضَّأُ منه بدليلِ أنَّه لَمَّا سُئِلَ عنِ الوضوءِ مِن لحومِ الغنمِ، قال:«إِنْ شِئْتَ تَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَتَوَضَّأْ»(١) مع أنَّ التَّوَضُّؤَ مِن لحومِ الغَنمِ مباحٌ، فلَمَّا خَيَّرَ في لحمِ الغَنمِ وأَمَرَ بالوضوءِ مِن لحمِ الإبلِ، دَلَّ على أنَّ الأمرَ ليسَ هو لمُجرَّدِ الإذنِ، بل للطَّلبِ الجازمِ.
(٣)(أَوْ) أي: ومثلُ ما تَقَدَّمَ: الأمرُ (بِمَاهِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ بَعْدَ سُؤَالِ تَعْلِيمٍ)؛ فيَكُونُ (لِلْإِبَاحَةِ) كالأمْرِ بعدَ الاستئذانِ في الأحكامِ والمَعنَى، وحينئذٍ فلا يَستقيمُ استدلالُ الأصحابِ على وجوبِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في التَّشهُّدِ الأخيرِ بما ثَبَتَ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قِيلَ له: يا رسولَ اللهِ! قد عَلِمْنا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ
(١) رواه مسلم (٣٦٠) من حديث جابر بن سَمُرَةَ -رضي الله عنه-.