وهذا البابُ مِن موضوعِ نظرِ المجتهدِ وضروراتِه؛ لأنَّ الأدلَّةَ الشَّرعيَّةَ متفاوتةٌ في مراتبِ القوَّةِ، وقد يَعرِضُ لها التَّعَارُضُ والتَّكافي فتَصِيرُ بذلك كالمعدومةِ، فيَحتاجُ المجتهدُ إلى إظهارِ بعضِها بالتَّرجيحِ ليَعمَلَ به، وإلَّا تَعَطَّلَتِ الأدلَّةُ والأحكامُ، فهذا البابُ ممَّا يَتَوَقَّفُ عليه الاجتهادُ توقُّفَ الشَّيءِ على جُزئِه أو شرطِه.
ولمَّا كانَ مقصودُ التَّرتيبِ للأدلَّةِ وتعادلِها وتعارُضِها وتَرجيحِها وَجَبَ الكشفُ عن حقيقةِ التَّرتيبِ وغيرِه؛ لأنَّها شروطٌ في الاجتهادِ، والحُكمُ عليها بالشَّرطِيَّةِ يَستدعي سَبْقَ تصوُّرِ مَاهِيَّتِها؛ إذ التَّصديقُ أبدًا مَسبوقٌ بالتَّصوُّرِ، ولمَّا كانَ التَّرتيبُ مَصدَرَ رَتَّبَ يُرَتِّبُ تَرْتِيبًا عَرَّفَه بمصدرٍ مِثْلِه وهو الجَعْلُ، فقالَ:
(التَّرْتِيبُ: جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ)؛ لأنَّ التَّرتيبَ قد يَكُونُ في شيئينِ وقد يَكُونُ في أشياءَ كثيرةٍ، كجماعةِ رجالٍ مُتفاوتينَ في الأقدارِ، يَجلِسُ كلُّ واحدٍ منهم حيثُ يَستحِقُّ بالنِّسبةِ إلى أصحابِه، وقولُه:(فِي رُتْبَتِهِ) أي: في موضعِه أو منزلتِه (الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا) أي: يَستحِقُّ جَعلَها فيها بوجهٍ مِن الوجوهِ؛ لأنَّ أسبابَ التَّرتيبِ والتَّفاوُتِ في المراتبِ مُتَعَدِّدَةٌ، فقد يَستحِقُّ الشَّيءُ التَّقديمَ مِن جهةِ قُوَّتِه أو قُربِه أو حُسنِه أو خاصِّيَّةٍ (١) فيه، وقد