للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومِن هنا جازَ للعامِّيِّ أن يَستفتيَ مَن شاءَ مِن المُفتينَ (١) ويَعمَلَ بقولِه، وقِيلَ: إنْ وَقَعَ التَّعادُلُ في الواجباتِ؛ إذ لا يَمتنعُ التَّخييرُ فيها في الشَّرعِ، كمن مَلَكَ مِئتينِ مِن الإبلِ يُخَيَّرُ بينَ إخراجِ أربعِ حِقاقٍ أو خمسِ بناتِ لَبُونٍ، وإنْ وَقَعَ بينَ حُكمَينِ مُتناقضَينِ كإباحةٍ وتحريمٍ، فحُكمه التَّناقضُ والرُّجوعُ إلى البراءةِ الأصليَّةِ، وليسَ للمُفتي تخييرُ المستفتي والخصومِ (٢) ولا الحُكْمُ في وقتٍ بحُكمٍ، وفي وقتٍ بحُكْمٍ آخَرَ، بل يَلْزَمُ أحدَ القولينِ.

وهل يَتَعَيَّنُ أحدُ الأقوالِ بالشُّروعِ فيه كالكَفَّارةِ أم بالتزامِه كالنَّذرِ؟

قالَ الباقلَّانيُّ: لهم فيه قولانِ.

(وَالتَّرْجِيحُ) فِعْلُ المُرَجِّحِ النَّاظرِ في الدَّليلِ، وهو (تَقْوِيَةُ إِحْدَى أَمَارَتَيْنِ) صالحتينِ (٣) للإفضاءِ إلى معرفةِ الحُكمِ (عَلَى) الأمارةِ (الأُخْرَى لِدَلِيلٍ) أي: لاختصاصِ تلك الأمارةِ بقوَّةٍ في الدَّلالةِ، كما إذا تَعارَضَ الكتابُ والإجماعُ [في حُكمٍ] (٢) والعامُّ والخاصُّ، أو قياسُ العِلَّةِ والشَّبَهِ، فكلٌّ مِنهما طريقٌ يَصلُحُ لأنْ (٤) يُعرَفَ به الحُكمُ، لكنَّ الإجماعَ اختصَّ بقوَّةٍ على الكتابِ مِن حيثُ الدَّلالةُ، وكذا الخاصُّ على العامِّ، وقياسُ العِلَّةِ على الشَّبَهِ مُقَدَّمٌ لذلك، وقد رَجَّحَتِ الصَّحابةُ قَولَ عائشةَ -رضي الله عنها- في التقاءِ الختانَينِ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-» على ما رَوَاه الجماعةُ عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ» (٥)؛ لكونِها أعرفَ بذلك منهم، وقد نَصَّ الشَّارِعُ على اعتبارِ التَّرجيحِ، حيثُ قالَ: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ


(١) في «د»: المفتيين.
(٢) ليس في «د».
(٣) في (ع): الأمارتين الصالحتين.
(٤) في «ع»: لأنه.
(٥) رواه مسلم (٣٤٣) من حديث أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه-.

<<  <   >  >>