والغرضُ مِن هذا الكلامِ أنَّ المُجتهدَ له وظائفُ، وهي: ترتيبُ الأدلَّةِ والتَّصرُّفُ فيها وترجيحُ بعضها على بعضٍ عندَ التَّعَارُضِ، والتَّرجيحُ نوعٌ مِن التَّصرُّفِ فيها.
أمَّا التَّرتيبُ: فهو ما بيَّنَه مِن تقديمِ الإجماعِ، ثمَّ الكتابِ، ثمَّ خبرِ الواحدِ، ثمَّ قولِ الصَّحابيِّ، ثمَّ القِيَاسِ، ثمَّ باقي الأدلَّةِ على مَراتِبِها في نظرِ المجتهدِ.
وأمَّا التَّصرُّفُ فيها كحملِ العامِّ على الخاصِّ، والمطلقِ على المقيَّدِ، والمجمَلِ على المبيَّنِ، ونحوِ ذلك، فقد تَقَدَّمَ في أبوابِه.
وسُمِّيَ هذا تَصَرُّفًا؛ لأنَّ التَّصرُّفَ هو التَّنقُّلُ في الأزمنةِ والأحوالِ، وهذا تَنقُّلٌ في أحوالِ الأدلَّةِ مِن حالٍ إلى حالٍ.
وأمَّا التَّرجيحُ فسيَأتي ذِكرُه قريبًا، وإنَّما أخَّرَه عن التَّعَارُضِ؛ لأنَّه فَرعُه فلا يَقَعُ إلَّا معَ وجودِه، فحيثُ انْتَفَى التَّعَارُضُ انتفى التَّرجيحُ، فالتَّرجيحُ مُرَتَّبٌ على وجودِه، فإذا عَرَضَ للأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ التَّعَارُضُ والتَّكافي صارَتْ كالمعدومةِ، فتَحتاجُ إلى التَّرجيحِ، وقد أَشرْتُ إلى ذلك أوَّلَ البابِ.
(وَالتَّعَارُضُ: تَقَابُلُ دَلِيلَيْنِ وَلَوْ) بينَ دليلينِ (عامَّيْنِ) فيَجُوزُ تعارضُهما عندَ الأكثرِ (عَلَى سَبِيلِ المُمَانَعَةِ) مُتَعَلِّقٌ بـ «تقابُلُ»، وذلك إذا كانَ أحدُ الدَّليلَينِ يَدُلُّ على الجوازِ والآخرُ يَدُلُّ على المنعِ، فدليلُ الجوازِ يَمنَعُ التَّحريمَ، ودليلُ التَّحريمِ يَمنَعُ الجوازَ، فكلٌّ مِنهما مقابلٌ للآخَرِ، ومعارضُ له ومانعٌ له، كنَهْيِه -عليه السلام- عن الصَّلَاة بعدَ الصُّبحِ والعصرِ، معَ قولِه -عليه السلام-: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»(١)؛ لأنَّ كلًّا منهما عامٌّ مِن وجهٍ خاصٌّ مِن وجهٍ.
(١) رواه مسلم (٦٨٤) من حديث أنس -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا».