خيل إلي أن صدى تموجات هذا الزئير المرعب لمن لمس رؤوس أعمدة بعلبك متمتماً: ها أني سبقت زائريك العتيدين لأقول لك أني لو تجاسرت لاحتقرتك أيتها الأعمدة، لكن سخطي عظيم عندي مرآي هؤلاء الناس الذين يستعملونني، أنا آية اختراعات السنين الحاضرة وأنفع آلة تجارية، للوصول إليك، أنت يا رمال الأيام ويتيمة الليالي الغوالي!
بيد أن القطار ما لبث أن أسرع في سيره متلوياً بين الشجيرات الخضراء، وهدأ سخطه تحت قبلات النسيم الآتي من أعالي الجبال، فتدرج صاعداً على أكتاف لبنان، وظل يترك محطة ويمر بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمانا الذي قال فيع لامرتين أنه أجمل أودية العالم القديم، فرأيت التلال فيه تتطوى، كأنها لأقمشة حريرية، لمداعبة أطراف الجبال المجاورة، فتنبسط هذه تحتها سطوح مستديرة الشكل تكسوها أشجار الصنوبر وتتخللها القرى البيضاء المساكن، والقرميد الأحمر يكلل كل بيت من بيوتها كأنه هالة قرمزية. وهناك على الشاطئ ترى آكاماً صغيرة رابضة كأسود تحرس الأمواج، والبحر الفسيح يبسط أمامها رزقه مرتفعاً في أطراف الأفق حيث يمتزج
أثيره بأثير الجو متلاثمين وراء آفاق بيروت القائمة في المياه العثمانية مليكة عليها، كأنها قيثارة الجمال تضرب الأمواج على أوتارها أعاني الأرواح، وأناشيد البحار، وتهاليل العناصر وتعاظيمها.
ثم أخذ القطار في النزول حتى بلغ سهول بعلبك الغائبة حدودها وراء آفاق بعيدة لا يدركها النظر. سهول هي أشبه بوادٍ متسع ينحصر