ممَّا يقولُهُ بعضُهم في الموازنة بين علم الشرق في الزمن الغابر , وعلم الغرب في الوقت الحاضر , أنَّ تقدُّم العلم الغربيّ مسيَّرٌ في الغالب بيد الصناعة , وأن للغاية الاقتصادية تأثيراً على مبدئه. فهو مثلُ الحضارة الغربية عمليٌّ أكثر منهُ نظريّ , وإلى الماديّ أقربُ منهُ إلى الأدبيّ. أمَّا العلم الشرقيّ فإنّ مدينة الشرق لم تنحُ بهِ نحواً خاصاً. ولذلك كان ينمو مع المدارك البشرية على قدرها. ولو أتي له الاستمرار في طريقهِ حتى يُدرك عصرَ الطباعة فالبخارِ والكهرباءِ , لكان لهُ في المستقبل شأنٌ غيرُ شأنهِ في الماضي. هذا ما يقولُهُ بعضهم في الموازنة بين العلمين؛ ويقولون زيادة على ذلك إنَّ العلمَ النظريَّ لم يبلغْ في أوربا اليومَ المنزلة التي بلغها في آسيا من قبل. ولعلّ الخاطرَ الأوّل الذي خطر لي عند إطّلاعي على رسالةِ الرئيس أبي عليّ الحسين بن سينا في أسباب حدوث الصوت والحروف كان من هذا القبيل , فقد قلتُ في نفسي ساعتئذٍ: لماذا تفيضُ الفلسفةُ الطبيعية الحديثة في بيان أشكالِ النور وألوانهِ وتحلُّله وتركّبهِ عند في بيان أشكال الصوتِ وأوصافهِ عند مرورهِ بالحنجرة وعبث اللسان بهِ في أطراف الفم , كما فعل ابن سينا قبل تسعمائة سنة في الكتاب الذي هو موضوعُ بحثنا الآن؟ نبهّني إلى كتاب ابن سينا عالمٌ جليلٌ محقّق , فرأينهُ من أنفس مدّخرات خزانة العالِم الفاضلِ أحمد تيمور بك , ولكنهُ واأسفاه! قد تناولتهُ يدُ التحريف والتصحيف حتى لا يكاد الإنسانُ يثقُ ببقاء جملةٍ منهُ على أصلها. فزادني هذا الأمرُ شوقاً إلى نشره وإحيائهِ تعريفاً للخلفِ بمآثر السلَف , وإعلاماً بما للعرب