للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المعنى. ذلك كان مذهبه في الشعر وتلك غايته منه. ولا ننس له فضلا جديراً بالذكر الخاص وهو أنه أول شعراء البعثة الحديثة بمعنى أنه أول من رد الديباجة إلى بهائها وصفائها القديمين , وما أبرزّ قريضه لقريض جيله , فإنك لتجد الواحدة من قصائده ذاهبة صعداً إلى عهد أرقى أزمنة العرب فهي كالجبال الشامخة وحولها القصائد الأخر كالأركان المقامة من حجارة إطلال بلا اختيار ولا نسق ولا هندام. الخلاصة أن المرحوم البارودي كان في الطبقة الأولى بين شعراء العرب وكان قلبه كلفاً بالنغمة وذهنه منصرفاً إلى الصناعة كما يدل على ذلك منظومة وكما يشير إليه اختياره من أقوال المتفوقين فإنه لم ينتق منها إلا كل ما حسن لفظاً ومعنى أو حسن لفظاً. وأهمل ما حسن بمعناه دون مبغاه فشعره إنما هو شعر الصناعة والإيقاع.

خليل مطران

[الأمير شكيب أرسلان]

حضري المعنى , بدوي اللفظ , يحب الجزالة حتى يستهل الوعورة. فإذا عرضت له رقة ولان لها لفظه فتلك زهرات ندية شديدة الريّا ساطعة البهاء كزهرات الجبل. نبغ منذ طفولته في الشعر ولكن أبكر الفتيان في نشر ديوان له , وجاء ديوانه في وقته آية غير أنه لم يلبث أن ترك الشعر وانصرف إلى الترسل فيه ما أوتيه من العبقرية فهو الآن في مذهبي أمام المترسلين. على أنه قد يدعوه من النفس أو من الطوارئ فينظم. ينظم كما نثر فياض الفكر غير تعب , لكن نظمه يحمل في عهده الآخر أثراً من نثره.

خليل مطران

[المراسلات السامية]

تكاتب بها هذان الأديبان الكبيران أيام كان المرحوم البارودي منفياً في جزيرة سيلان مع زعماء الثورة العرابية الشهيرة. وكان سبب هذه المكاتبة أن الأمير شكيباً استشهد في بعض كتاباته أولاً وثانياً بأبيات للبارودي على غير معرفة شخصية سابقة , فكتب محمود سامي باشا إلى الأمير بالمقطوعة الآتية , قال:

أَشدتَ بذكري بادئاً ومُعقّباً ... وأَمسكتُ لم أَهمسْ ولم أَتكلمِ

وما ذاك ضِنّاً بالودادِ على امرئٍ ... حباني بهِ , لكن تَهيَّبتُ مَقدَمي

فأمَّا وقد حقَّ الجزاءُ فلم أكنْ ... لأَنطِقَ إلاَّ بالثناءِ المُنمنَمِ

فكيف أذودُ الفضلَ عن مستقَرّهِ ... وأُنكرُ ضوَء الشمسِ بعدَ توسّمِ

وأنت الذي نوّعت باسمي ورشتَني ... بقولٍ سرى عنّي قناعَ التوهمِ

لكَ السبقُ دوني في الفضيلةِ فاشتَمِلْ ... بحُليَتِها , فالفضلُ للمقدِّمِ

ودونكها يا ابنَ الكرامِ حبيرةً ... من النظمِ سدَّاها بمدحِ العلا فمي

فأجابهُ الأمير:

لكَ اللهُ من عانٍ بشكرٍ منمنَمِ ... لتقدير حقٍّ من علاكَ محتَّمِ

وشهمٍ أبيّ النفسٍ أضُحى يَرى يداً ... تَذَكُّرَ فضلٍ أو جميلٍ لمنِعمِ

رأى كرَماً منّي تذكُّرَ قولهِ ... فدّلَّ على أعلى خِلالاً وأكرَمِ

ولو كانَ يدري فاضلُ قدرَ نفسهِ ... رأى ذكرَهُ فرضاً على كل مُسلمِ

أيعجبُ من تنويهِ مثلي بمثلِهِ؟ ... لعمري الذي قد شقَّ في شعرهِ فمي

ومهما يكنْ مِن أعجمٍ فبفضلِهِ ... يُرى ثقَفيّاً في الورى كلُّ أعجمِ

إذا مَطرَ الغيثُ الرياضَ بوابلٍ ... فأيُّ يدٍ للطائرِ المترنّمِ؟

إذا ما تَصبَّت بالعميدِ صباحةٌ ... بوجهٍ , فما فضلُ العميدِ المتيَّمِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>