بلاغة الحذف ..
لا أعني بذلك ما عرف في علم المعاني خاصا بهذا العنوان بل أعني ما عرف عن صاحب الزهور من اختيارات شعرية ونثرية لكبار الأدباء, يتعمد حذف الكثير مما اتصل بهما, إذ لا يراه ذا توجيه نافع للقارئ يدرك ذلك من يقرأ ما نشر في الزهور ثم يرجع إلى الأصل في الدواوين الشعرية, أو مجموعات المقالات لكبار الأدباء, ولعل أوضح ما أشير إليه في هذا المنحى ما نشره من قصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها:
كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم
فقد كان النسيب الطويل في مطلعها تمهيداً لمديح ضاف للخديو عباس, فرأى الجميل -والخديو عباس حينئذ حاكم مصر- أن ينشر الغزل فقط مع أن القصيدة بأجمعها قد نشرت بالجرائد اليومية, وفي هذا الحذف ما يوسع مجال الوشاية عند قوم لا هم لهم سوى الشحناء! والغزل أقل أغراض الشعر عند حافظ, ولكنه في هذه القصيدة بالذات قد تفوق على نفسه, وأرادت الزهور أن تثبت ذلك بما نشرت وحذفت معا, ومما راقني في هذه القصيدة قول حافظ:
لله موقفنا وقد ناجيتها ... بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم
قالت من الشاكي؟ تساءل سربها ... عني, ومن هذا الذي يتظلم؟
أنا من عرفت ومن جهلت ومن له ... لولا عيونك حجة لا تفحم
لا السهم يرفق بالجراح، ولا الهوى ... يبقي عليه، ولا الصبابة ترحم
وبعد فلعلي أفلحت, أن أقدم للقارئ بعض باقات جمعتها كما اتفقت دون اتئاد صابر, فقد وجدت نفسي أمام طعوم شتى, وكلها رائع معجب, فتناولت ما امتدت يدي إليه, وتحاشيت أن أجهد القارئ بإطالة لا آخر لها, وأنا معذور فيما تركت إذ بات الأمر كما قال الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد!