[النيل السعيد]
صَفَتْ مرآتهُ , وجلاهُ جالِ ... فلاحَ كأنَّهُ ذوبُ أللآلي
وغازَلتِ الحدائقُ شاطئَيهِ ... وألقتْ فوقهُ خُضرَ الظلالِ
فكم غُصُنٍ قدِ ارتسمتْ حُلاَهُ ... عليهِ تهزُّهُ ريحُ الشمالِ
كما ارتسمتْ على المرآةِ خودٌ ... يُرَنّحُ عطفَها خَمْرُ الدَّلالِ
وناحيةٍ بِرُمَّانٍ أُظِلَّتْ ... وناحيةٍ بأعراشِ الدَّوالي
ونخلٍ باسقاتٍ كالعذارى ... تَثَنَّى في غدائرِها الطِّوالِ
خَلعنَ الحسنَ منعكساً عليهِ ... فآنسنَ الحقيقةَ بالخيالِ
وحلَّى ألسُنَ الأطيارِ منهُ ... وقال لها اذكري باري جَمالي
فجنَّ الطيرُ باسمِ اللهِ حتى ... تَدَاني اللهُ والسبعُ العوالي
فآمنَ بالبديع الصنعِ قلبي ... وفاضَ الطرفُ بالدرَرِ الغوالي
وسارَ النيلُ يطلبُ وصلَ مصرٍ ... وهل يُرضي المحبَّ سوى الوصالِ
تُضاحكهُ الغزالةُ في عُلاها ... وبدرُ التمّ في أوجِ الكمالِ
عذارى الغرب , قد سحتُنَّ شرقاً ... وغرباً للجنوبِ وللشمالِ
أَمِثْلَ النيل شاهدتنَّ نهراً ... تفرَّدَ بالمحاسنِ والجلالِ
لئن كانَ الأُلى عبدوهُ ضلَّوا ... فَرُبَّ هدايةٍ تحتَ الضَّلالِ
أُحِبُّ النيلَ حُبَّ أبي وأُمّي ... وأهوى مصرَ فوقَ دمي ومالي
وبي عن كلِّ مشروبٍ حرامٍ ... غنىً بِرضا بهِ العذبِ الحلالِ
رضعتُ هواهُ في مهدي صغيراً ... وحينَ أشابتَ الدنيا قَذالي
بِلاَدي لا أَرومُ بها بديلاً ... ولو أًسكنْتُ في روضِ المالِ
وما فكَّرتُ في الأهرامِ إِلاَّ ... بكيتُ مفاخرَ الحُججِ الخوالي
فلولا يُمْسِكُ التوحيدُ رُكني ... سجدتُ لتلكمُ الرُّمَمِ البوالي
بوِدّي لو قرعتُ صفاةَ هَمّي ... بأمثالِ الجبالِ من الرّجالِ
فبي وخزٌ من الأيام جافٍ ... على جُرحٍ قريبِ الإِندمالِ
أيمضي الدهرُ , لا ميتٌ فأُنسى ... ولا أشفى من الداءِ العُضالِ
وما لي لا أرى إِلاَّ ظلاماً ... يكادُ يغضُّ من نورِ الهِلاَلِ
وما بالي أهمُّ بما أُرجّي ... فتقعدَ بي على نضْوٍ رِحالي
بمن يا نيلُ أرمي مَنْ رمانا ... وقد خَلتِ الكنانةُ من نبالِ؟
[عبد الحميد بك الرافعي]
هو من أدباء طرابلس الشام المعدودين , وسليل أسرة عريقة مشهور عن إفرادها العلم والفضل. أنا شعره فشعر البداوة مع مسحة حضرية , فصيح الألفاظ , جيد التراكيب. وله ديوان حافل بغرر المنظومات.
[المشيب]
يا شَيبُ , عَجَّلْتَ على لِمَّتي ... ظُلماً فيا ابنَ النُّورِ ما أظلَمَكْ
بدَّلتَ بالكافورِ مِسكي وما ... أضواهُ في عيني وما أعتَمَكْ
مَنْ يقبلُ الفاضحَ في ساترٍ؟ ... فهاتِ ليلايَ وخُذْ مريَمَكْ
غرَّكَ أنَّ الشيب عند الورى ... يكرمُ , هل في الغيد مَنْ أكرَمَكْ؟
نَفَّرْتَ عني غانياتِ الطلي ... ويحكَ! قد أسقيتَني عَلْقَمَكْ
دَعَونني الشيخَ وكنتُ الفتى ... أخَّرني الدَّهرُ الذي قَدَّمَكْ
ونالَ من حَولي ومن قوَّتي ... جَوْرُ زمانٍ فيَّ قد حكَّمَكْ
سِرعانَ ما أذْبلتَ من صَبَوتي ... بنارِكَ البيضا فما أضرَمك
وشدَّ ما لاقت عيوني فلو ... ينطقُ لي جَفْنٌ إِذَنْ كلَّمك
وَرُبَّ لمياَء منيعِ اللَّمى ... تقولُ ما أسقيهِ إلاَّ فَمك
تخاطبُ البدرَ على تمِّهِ ... جَلَّ الذي من غرَّتي جَسَّمك
كنتُ مع العفَّةِ أحيا بها ... وهل بلا ماءٍ يعيشُ السَّمَك