ذهبتُ إلى الإسكندرية , وفي تقديري أن أقضيَ ثمَّتَ يومين , وفي تقدير الله أن أقضيَ شهرين. فما هو إِلاَّ أن خَلَت ليلةٌ حتى باغتَني داءٌ , فضرب وأثقل , ثم تمكَّن فأعضل , ثم أناخَ بكلكل. فلمَّا صوتُ بعد أيام من سكرتهِ , ونجوتُ من مضطرَب غمرتِه , نهضتُ ببقية الجسم الباقية , كما تُلبس الخرقة البالية , وعرضتُ نفسي على الباخرة , فالباخرةُ تحملني إِمَّا إلى الشرق وإِما إلى الغرب. فقيل: مكانك يا هذا الخيال! إِنّ الباخرةَ لا تستقلُّ بك في زمن وباءٍ , وقد تستقلُّ بأشباه الجبال. قال الطبيب: فعليك بالمكس! حَسُنَ هواؤها , وجلَّ رواؤها. فقصدتُ المكس وما أدراك ما هي الآن. هي إِحدى ضواحي الإسكندرية , قليلةُ المساكن حقيرتها , تمتدُّ سلسلة أبنيتها مستطيلةً بين شاطئِ البحر والرمل. الهواءُ فيها جافٌّ نقيٌّ عاصف , والبحرُ شديد الخفوق لا يملُّ من مداعبة الصخور بمثل خشونة الضواري في تداعبُها. والمنظر على الجملة بديعٌ في مطلع الشمس وفي مغربها؛ وللشمس فيها تجلّياتٌ باهرةٌ خلالَ الغمام , وللغمام تشكُّلٌ وتلوُّن فاتنان , وللأُفق تأنُّقٌ عجيبٌ في ترتيبِ قدر المنطقة التي يتحزَّم بها وإبرازها في أبدع زينةٍ بين الورديّ فالبنفسجيّ فالفستقيّ فالزمرديّ فاللازورديّ