أو تكنْ في الناسِ كُنْ أقواهمُ ... ليستِ العلياءُ حظَّ الوَكيلِ
[حنين إلى مصر]
أشقى البريَّةِ نفساً صاحبُ الهِمَمِ ... وأتْعَسُ الخَلْقِ حَظّاً صاحبُ القلمِ
عافَ الزمانُ بين الدنيا وقيّدَهُ ... والطيرُ يُحبَسُ منها جيّدُ النَّغمِ
وحكَّمت يدُهُ الأقلامَ في دَمهِ ... فلم تَصُنْهُ ولم يعدِلْ إلى حُكُمِ
لكلّ ذي هِمَّةٍ في دهرهِ أملٌ ... وكلُّ ذي أملٍ في الدَّهرِ ذو ألمِ
ويلُ الليالي! لقد قلَّدنني ذّرباً ... أدني إلى مُهجتي من مُهجةِ الخَصِمِ
ما حدَّثتنيَ نفسي أن أُحَطِّمَهُ ... إلاَّ خشيتُ على نفسي من النَّدَمِ
فكلمَّا قلتُ: زُهدي طاردٌ كَلَفي ... رجعتُ , والوجدُ فيهِ طارِدٌ سأَمي
يأبى الشقاءُ الذي يدعونهُ أدباً ... أن يضحكَ الطرسُ إلاّ أن سفكتُ دمي
لقد صَحبتُ شبابي واليراعَ معاً ... أودي شبابي! فهل أُبقي على قَلَمي؟
كأنما الشَّعَراتُ البيضُ طالعةً ... في مفرقي أنجمٌ أشرقنَ في الظلَمِ
تضاحَكَ الشَّيْبُ في رأسي فعرّض بي؛ ... ذو الشيب عند لغواني موضعُ التُّهمِ
وليلةٍ بتُّ أجني من كواكبها ... عَقداً كأني أنالُ الشُّهبَ من أمَمِ
لا ذاق طرفي لكرى حتى تنالَ يدي ... ما لا يفوزُ بهِ غيري من الحُلُمِ
ليسَ الوقوفُ على الأطلال من خُلُقي ... ولا البُكاءُ على ما فاتَ من شِيِمي
لكنَّ مصراً وما نفسي بناسيةٍ ... مليكةَ الشرقَ ذاتَ النيلِ والهرَمِ
صرفتُ شطرَ الصِّبي فيها فما خَشِيَت ... رِجلي العثارَ , ولا نفسي من الوَصمِ
في فتيةٍ كالنُّجومِ الزُّهرِ أوجهُهُم ... ما فيهمِ غيرُ مطبوعٍ على الكرَمِ
لا يقبضونَ مع اللأواءِ أيديَهم ... وقلمَّا جادَ ذو وَفرٍ مع الأزَمِ
في ذمَّةِ الغربِ مشتاقٌ يُنازعهُ ... شوقٌ إلى مهبطِ الآياتِ والحِكَمِ
ما تَغْرُبُ الشمسُ إلا أدمعي شَفَقٌ ... تَنسى العيونُ لديهِ حُمرةَ العَنَمِ
وما سَرَت نسماتٌ نحوَها , سَحَراً ... إلاَّ وددتُ لو أني كنتُ في النَّسمِ
ما حالُ تلك المغاني بعد عاشِقها؟ ... فإِنني بعدَها للسُهدِ والسَّقَمِ
بين الجوانحِ همٌّ ما يُخامرُني ... إلاَّ وأشرقَني بالباردِ الشبِمِ
جادَ الكنانةَ عنّي وابلٌ غدِقٌ ... وإن يكُ النيلُ يُغنيها عن الدِّيَمِ
الشرٌ تاجٌ , ومصرٌ منهُ دُرَّتهُ ... والشرقُ جيشٌ , ومصرٌ حاملُ العَلَم
هيهاتِ على الحرّ من أمٍّ على ولدٍ ... فالحرُّ في مصرَ كالورقاءِ في الحَرمِ
ما زلتُ والدهرُ تنبو عن يدي يَدُهُ ... حتى نَبتْ ضِلَّةً عن أرضها قَدَمي
[محمود سامي باشا البارودي]
. . . أما شعره فهو بجملته صناعة لا تنافس بقديم أو حديث مع ابتكار قليل وإحساس فياض. اختار له أحسن أساليب العرب وأفصح ألفاظهم وتغنى بها على وحي نفسه - ونفسه جارية النغمة وعاشقة الإيقاع - فافتنَّ حتى أنسى الفنّ , وجوَّد حتى أذهل عن