والطرفة الثالثة هي أن الزهور احتفلت بالجزء الثالث بتأبين (العشماوي) جلاد مصر الذي يحرك آلة المشنقة فيقع المتهم صريعا , فأهدت صورته إلى القراء كبطل مرموق, وقالت عنه بعد أن ذكرت اختلاف الناس في مهنته بين الاعتذار والوصف بالقوة وغلظ القلب, قالت: كانت الحكومة تنقد العشماوي راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات, وكان يتقاضى عن كل مشنوق خمسة جنيهات أخرى فإذا عرفت أنه قضى ١٥ سنة في هذه المهنة, وأنه شنق ٥٧٦ مجرما تعرف أن المبلغ الذي حصله من شد الحبال على الأعناق ٣٦٠٠جنيه بمعدل عشرين جنيها في الشهر! ومبلغ ثلاثة آلاف وستمائة جنيه, سنة ١٩١٠ مبلغ فلكي! فقد كان ثمن الفدان في بعض الجهات عشرة جنيهات, وفي استطاعة من يأخذ عشرين جنيها في الشهر الواحد أن يشتري فدانين بهما .. فيصبح من الوجهاء.
تراجم الراحلين ..
كان من ديدن المجلات حينئذ أن تكتب تاريخا لكل راحل مرموق من أهل الفكر والسياسة والأدب، نجد شاهد ذلك في المجلات المقتطف والهلال والبيان وغيرها, ولم تشذ الزهور عن ذلك, فقد احتفلت بكثير من هؤلاء, وقد لاحظت أنها خصت الشاعر البائس إمام العبد بكلمات متكررة في أعداد متتالية, فتذكرت أني عنيت بترجمة هذا الشاعر منذ خمسين عاما, فلم أجد غير جمل مقتضبة اجتهدت في صياغتهما, حتى بلغتْ مقالا نشرته بالرسالة بتاريخ ١٢ نوفمبر ١٩٥١, ولكن الزهور فاجأتني بأنباء وطرف عن إمام البؤساء لو وقعتُ عليها حينئذ لاكتسب المقال دسامة حية ليست به, فقد نشرتْ ما أجهل من نثره وشعره معا, كما نشرت بعض ما قيل في رثائه, وقد أبّنت الزهور زعيم الثورة العرابية عند رحيله, ولم تتورط فيما تورطت به بعض الصحف المنافقة, حين هاجمت الراحل الصامت دون حياء, وأنطون اللبق أكبر من أن يهوي إلى نقيصة، وإذا كان لا يتحدث في المجلة عن السياسة الحزبية, فقد تحدث عن السياسة الوطنية مرات، ومن أقوى ما كتبه حديثه عن الوحدة الوطنية حين حدث الشقاق المغرض بين عنصري الأمة عقب مصرع بطرس غالي, فكان الجميل الأديب السياسي المخلص صاحب توجيه عال, ونظر ثاقب عرف يهما حتى آخر يوم من حياته, ولم تقتصر ترجمات الراحلين على الشرقيين وحدهم, بل شملت أفذاذ الغرب مثل تولستوي, ومانويل الثاني وغيرهما.
مقالات أخرى ..
لا نحكم على شيء ما دون تقدير ظرفي الزمان والمكان, حيث إن الزهور حوت من قصص العرب, ومترجمات الغرب ما اشتهر الآن بين القراء بعد أن انتشرت كتب التراث على نحو واسع, وبعد أن ازدهرت حركة الترجمة ازدهاراً يانعا, فإذا كان ما جاء في الزهور عن امرئ القيس والنعمان بن المنذر وعنتره العبسي, وليلى العفيفة وسعد وسعاد, وحرب البسوس, والجامع الأموي وغيرها قد أصبح متعدد المصادر, ميسر السبيل, فإن ظهوره على صفحات الزهور بأسلوبه الأدبي, ومنحاه القصصي في أكثر موضوعاته يعد وثبة من وثبات التوجيه الحي نحو التراث الخالد, وقل ذلك فيما نقلت من مترجمات هيجو ولامرتين, وأدمون رستان, وما عربه الأستاذ عبد الأحد في أعداد متوالية تحت عنوان (نساء شهيرات ورجال عظام)، فكل ذلك عطاء صادف موقعه وغيث هطل على زرع يشتاق الماء.